أمين معلوف
أمين رشدي معلوف (25 فبراير 1949) كاتب ومفكر لبناني فرنسي. ولد في بيروت وبها درس الاقتصاد والعلوم الاجتماعيّة في مدرسة الآداب العليا وجامعة القدّيس يوسف. عمل في الصحافة المحلية. سافر إلى فرنسا ليقيم بها منذ سنة 1976 تزامنا مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حيث واصل عمله الصحفي هناك.
ثمّ تفرّغ إلى الكتابة الأدبيّة وأصدر جملة من المؤلّفات كانت البداية فيها مع «الحروب الصليبيّة كما رآها العرب» (1983)، «ليون الأفريقي» (1986)، «سمرقند» (1988)، «صخرة طانيوس» (1993)، «الهويّات القاتلة» (1998)، «اختلال العالم (2009)». وله العديد من المؤلفات في الرواية والتاريخ والمسرح الشعري والسياسة، لكن شهرته كانت في الأعمال الروائية. حصل على عديد الجوائز والمراتب فاختير من قبل المفوّضيّة الأوروبيّة سنتي 2007 و2008 لترؤس فريق تفكير في التعدّد اللغوي، وحصل على جائزة أمير أستورياس للآداب سنة 2010، وانتخب عضوًا في الأكاديميّة الفرنسيّة في 23 يونيو 2011 تحديدا المقعد رقم 29 خلفا لعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس. ونال أيضا الدكتوراه الفخريّة من عدة الجامعات.
اقتباسات
عدلكتابات
عدلليون الأفريقي
عدلليون الإفريقي (بالفرنسية: Léon l'Africain) رواية تاريخية لمعلوف صدرت سنة 1986 عن دار النشر الباريسية، لوحة غلافها هي صورة السلطان أحمد الثالث الحفصي لبيتر بول روبنز. تسرد الرواية سيرة ذاتية تخييلية، ببنية تحاكي أدب الرحلة، محكية بلسان بطلها الحسن الوزان، المعروف أيضا بليون الإفريقي. اقتباسات منها:
- خُتِنتُ، أنا حسن بن محمد الوزان، يوحنّا - ليون دومديتشي، بيد مزيّن وعُمِّدت بيد أحد البابوات، وأدعي اليوم «الإفريقي»، ولكنني لست من إفريقية ولا من أوروبة ولا من بلاد العرب. وأعرَف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزيّاتي، ولكنّني لم أصدر من أيّ بلد، ولا عن أيّ مدينة، ولا عن أيّ قبيلة. فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقلّ الرحلات توقّعاً.
- تهميد [1]
- وبالرغم من إجماع الناس على كراهية السلطان فقد كان لا يزال له بين الجموع عيون وآذان تنقل إليه ما يُقال، الأمر الذي كان يجعله يزداد حذراً وقسوة وجَورَاً. وتستذكر أمي قائلة : «ما أكثر وجهاء القوم وأعيان المدينة الذين قُبض عليهم لوشاية من خصم، أو حتى من جارٍ حسود، واتِهُّموا بشتم الأمير وهتك عِرضه، ثم طيف بهم في الشوارع على الحمير ووجوههم إلى أذيالها قبل أن يُلقى بهم في سجن أو تُقطع رؤوسهم!»
- «عام سلمى الحرّة» [2]
- وتتذكر أمي وتقول :«ها قد مرّت سبع سنوات من الحرب الأهلية، سبع سنوات من حرب يقتل الابن أباه، ويخنق الأخ أخاه، ويرتاب الجار في جاره ويخونه، سبع سنوات لا يقدر فيها الناس في ضاحيتنا «ألبيسان» أن يذهبوا ناحية جامع قرطبة من غير أن يُهزأ بهم أو تُساء معاملتهم أو يُضربوا أو حتى أن يذبحوا في بعض الأحيان.»
- «عام سلمى الحرّة» [3]
- ألم يكن الناس في غرناطة يقولون إن أخطر لحظات الحياة على رضيع هي اللحظة التي تلي مباشرة يوم فطامه في حوالي نهاية السنة الأولى؟ فكثير من الأطفال لم يتمكّنوا وقد حُرموا حليب أمهاتهم من البقاء طويلاً على قيد الحياة، ولذا راجت العادة بأن تعلّق في ثيابهم للوقاية تمائم السَبَج والأحجبة المغلّفة بأكياس صغيرة من الجلد وفيها أحياناً كتابات سحرية يفترض أنها تحمي حاملها من شرّ العيون والأمراض؛ حتى إن حجاباً منها يُعرف بـ«حجر الذئب» كان يُفترض فيه أن يدجّن الحيوانات الضارية بوضعه على رؤوسها... ويرى الأتقياء أن هذه المعتقدات وتلك الممارسات مخالفة للدين، ومع ذلك فإن أولادهم غالباً ما يحملون التمائم لأنه نادراً ما يتمكّن أولئك الرجال الأفاضل من هداية أزواجهم أو أمهاتهم سواء السبيل.
- ولم يحدث أن فارقت أنا نفسي - لماذا الأنكار؟ - قطعة السَبَج التي باعتها سارة لأمي عشية ذكرى مولدي الأولى، وقد خُطّت عليها علامات سحرية لم اتمكّن من فكّ رموزها. ولا أظن أن هذه التميمة مزوّدة بأي سلطان سحري، ولكن الإنسان من الضعف بإزاء القَدَر بحيث لا يستطيع إلا أن يتعلّق بأمور تكتنفها الأسرار. أيؤاخذني الله الذي خلقني ضعيفاً على ضعفي في يوم من الأيام؟
- «عام التمائم» [4]
- كانت عمامة الشيخ «أستغفر الله» عريضة وكانت كتفاه ضيّقتين وصوته صوت أئمة الجوامع الأبحّ، وقد مالت لحيته الكثّة المحمرّة الشعر إلى اللون الرمادي في ذلك العام مُضْفية على وجهه الحادّ القَسَمات مظهر الغضب المقيم الذي يحمله متاعاً أوحد ساعة المنفى. وكان قد عزم في لحظة وهن على ألّا يخضب قطّ شعره بالحنّاء، والويل لمن كان يسأله عن السبب : «إذا سألك ربّك عمّا فعلت يوم حصار غرناطة فهل تجرؤ على أن تجيبه بأنّك تزيّنت؟»
- «عام "استغفر الله"» [5]
- «كان الجوّ بارداً هذا العام في غرناطة، وكان مع البرد الخوف، وكان الثلج أسود بفعل التربة المفلوحة والدم. وما كان أشد الألفة مع الموت، وما كان أقرب المنفى، وما كان أقسى تذكّر أفراح الماضي!» لم تكن أمي هي إيّاها عندها كانت تتحدّث عن سقوط مدينتنا؛ وكان يصدر عنها حيال هذه المأساة صوت ونظرة وكلمات ودموع لم أكن أعرفها لها في أية مناسبة. وأما أنا فلم أكن قد بلغت الثالثة من عمري في تلك الأيام الصاخبة، ولست أدري إذا كانت الصيحات المزدحمة في مسعمي في هذه اللحظة تذكرة لما كنت قد سمعته حينذاك حقاً أو أنها فقط صدى ألف حكاية حُكيت لي مُذّاك.
- «عام السقوط» [6]
- «يشبه الوطن المفقود جثّة أحد الأقرباء؛ ادفِنها بإجلال وآمن بالخلود.» كانت كلمات "أستغفر الله" ترن على وقع سبحة العنبر التي كانت أصابعه الهزيلة الورعة تفرُق حبّاتها بلا كلل...
- «عام الرحيل» [7]
- [شيخ "أستغفرالله"] «كثيرًا ما سمعت في المآتم مؤمنين ومؤمنات يلعنون الموت. مع أنّ الموت هدية من الله عزّ وجلّ، ولا يمكن أن يعلن المرء ما يأتي من عند الله. أتبدو لكم كلمة «هدية» تحدّياً؟ ومع ذلك فإنّها الحقّ الصراح. فلو لم يكن الموت من الأمور التي لا تُدفع لأضاع الإنسان حياته بأسرها لدفعه. وما كان جازف بشيء، ولا حاول شيئاً، ولا شرع في أمر، ولا اخترع شيئاً، ولا بنى شيئاً. أجل يا أخوتي لنِحمَدِ الله على أن أهدى إلينا الموتَ ليكون للحياة معنى؛ والليلَ ليكون للنهار معنى؛ والسكوتَ ليكون للكلام معنى؛ والمرضَ ليكون للصحّة معنى؛ والحربَ ليكون للسِلم معنى. لِنَحمده على أن أعطانا التعب والأتراح ليكون للراحة والأفراح معنى. لِنَحمَده فإن حكمتة لا تُحدّ.»
- «عام النوادب» [8]
- وتابع خالي قائلاً : « سوف تسألني لماذا قلتُ للناس الذين كانوا هنا عكس الحقيقة. انظر يا حسن، إنّ جميع هولاء الرجال لا يزالون يعلقّون على جدران بيوتهم مفاتيح منازلهم في غرناطة. وفي كل يوم ينظرون إليها ويتنهّدون ويَدعُون. وفي كلّ يوم تعود إلى خواطرهم أفراح وعادات، ولا سيّما زهو لن يعرفوه في المنفى. والسبب الوحيد لبقائهم على وجه الدنيا هو تفكيرهم بأنْ لن يلبثوا، بفضل السلطان الأعظم أو عناية السماء، أن يسترجعوا منازلهم وألوان حجارتها، وروائح حدائقهم ومياه بِرَكها، لم يمسسها بشر ولا فسدت، كما هي في أحلامهم. إنهم يعيشون على هذا، وسوف يموتون على هذا، وأبناؤهم من بعدهم. وربّما لزمهم مَن يجرؤ على تعليمهم النظر بأم أعينهم إلى الهزيمة، من يجرؤ على إفهامهم أن على الإنسان لكي ينهض أن يتقبّل أوّلاً أنّه مُلقىً أرضًا. وربما أنبغى أن يقول لهم أحد الحقيقة يومًا. وأمّا أنا فلست أملك الشجاعة لذلك.»
- «عام الحمام» [9]
- اتّخذت الاستعدادات بعناية فائقة ودامت طويلاً جدّاً بالنسبة إلى ما كنت أشتهي، ولم أكن أتمكّن في الأيام الأخيرة من النوم ولا القراءة، ولا كنت أتنفّس إلا أنفاسًا متباعدة مضغوطة. فقد كنت بحاجة إلى الرحيل على الفور، إلى التشبّث عالياً جدّاً بسنام جمل، إلى أن يبتلعني الرحب الصحراوي الذي يتخذ فيه الناس والبهائم والماء والرمل والذهب جميعًا اللون نفسه والقيمة ذاتها والتفاهة الفريدة عينها.
- «عام القافلة» [10]
- وسرعان ما اكتشفت كذلك أن في وسع المرء أن يترك للقافلة أن تبتعله. فعندما يعرف رفاق السفر أنّ عليهم خلال أسابيع وأشهر أن يسيروا في الاتجاه نفسه، وأن يواجهوا الأخطار عينها، وأن يعيشوا ويأكلوا ويصلّوا ويتسلَّوا ويقاسوا ويموتوا أحياناً معاً، فإنهم ينقطعون عن أن يكونوا غرباء بعضهم عن بعض؛ فلا تبقى رذيلة خافية ولا يدوم تصنّع. وإذا نُظر إلى القافلة من بعيد فهي موكب؛ وإذا نُظر إليها عن كثب فهي قرية بكلّ ما فيها من حكايات ودعابات وألقاب ومكائد ونزاعات ومصالحات وأمسيات غنائية وشعرية، قرية تبدو لها جميع الأمصار بعيدة، حتّى تلك التي جاء أصحاب القافلة منها، وحتّى تلك التي يجتازونها من وقتهم...
- «عام القافلة» [10]
- ... وزيّنت نصيحتها بنبوءة جعلتني في حينها أبتسم: «كثير من الناس يكتشفون الدنيا الواسعة وهم يسعون إلى الغنى وحسب. أمّا أنت يا بنّي فسوف تعثر على كنز وأنت تسعى إلى التعرّف على الدنيا.»
- «عام العروس» [11]
- واحتفظ العجوز بيدي طويلاً في يده، أطول ممّا جرت به العادة، ثم نظر في عينيّ من غير أن يعتدل وقال :« لقد ابتسم لك الحظّ يا صديقي الشابّ، وأنا سعيد لأجلك كما لو كنت ابني. ولكن احترس، فالثروة والسطوة عَدُوّا حصافة الرأي. وأنت حينما تتأمّل حقل قمح ألا ترى فيه سنابل منتصبة وأخرى مَحْنيّة؟ ذاك لأنّ الأُوليات فارغات! فاحتفظظ إذن بذلك التواضع الذي قادك إليّ وفتح لك على هذا النحو بمشيئة الله تعالى سبل الغنى.»
- «عام الثروة» [12]
- وكان اليوم الذي بدأت فيه الأعمال أجلٌ أيام حياتي. فقد ذهبت في الغسق، وحولي ثلّة من الحاشية، أضع في البناء المقبل عند أركانه الأربعة طلسمات نفيسة وشَعْر طفل قُصَّ بعناية من رأس ابنتي؛ وكنت قد غدوت فجأة متأثراً بأعمال السحر وأمور الطِيَرة، وكنت أوّل المندهشين لذلك. فلا ريب أنّ هذا نصيب الأغنياء والأقوياء، فلمّا كانوا يدركون أن ثروتهم ترجع إلى الحظّ أكثر ممّا ترجع إلى مزاياهم فإنّهم يتغزّلون به وكأنه عشيقة، ويتعبّدون له وكأنه وَثَن.
- «عام القصرين» [13]
- ... هزّ كتفيه وقال :«إذا كنت تريد التدخّل في السياسة ومفاوضة الأمراء فعليك أن تتعلّم الاستهانة بظواهر الأمور.»
- «عام الشريف الأعرج» [14]
- ها هاي ذي القاهرة أخيرًا... لا يمكن أن ينسىء المرء في أيّة مدينة أخرى بهذه السرعة أنّه غريب. فما إن يصل المسافر حتى يلفّه إعصار من الشائعات والنوادر والثرثرات. فمئة مجهول يحيطون به ويهمسون في أُذنه ويُشهدونه على ما يفعلون ويدفعونه من كتفه لدفعه جيداً إلى الشتيمة أو الضحك المنتظرين. لقد أصبح شريكاً في الأسرار يمسك بطرف من حكاية خيالية ويلزمه معرفة تتمتّها، حتى وإن اقتضاه ذلك أن ينتظر القافلة التالية أو العيد المقبل أو موسم الفيضان. ولكنّ حكاية أخرى تكون قد بدأت.
- عام «العين الجليلة» [15]
- - لا أظن أن الأهرام بعيدة من هنا.
- بالضبط!
وإذا شجّعني هذا الأيضاح فقد تابعت:
- هل نحن ذاهبان إليها؟
- بالضبط
- أمن أجل رؤية هذه الأبنية المدوّرة تأتين كلّ أسبوع هنا؟
واستولى عليها ضحك خالص غير مشجّع لم أستطع معه إلا الشعور بأنّي جُرحت. ولكي أسجل استهجاني نزلت عن جملي ووقفت سيره، فلم تلبث أن رجعت إليّ وقالت:
- اعذرني علي أن ضحكتُ، وذلك لأنّك قلت إنها مدوّرة.
- أنا لم اخترع ذلك، فابن بطوطة الرحّالة العظيم يقول بالحرف إن الأهرام «مستديرة الأشكال».
- ذلك لأنه لم يرها قطّ. أو إذا كان قد رآها فمن بعيد، وفي الليل، سامحه الله! لكن لا تلُمْه. فعندما يقصّ مسافر مآثره يغدو سجين تهليلات سامعيه. وهو لا يجرؤ على القول «لست أدري» أو «لم أشاهد» خوفًا من أن يفقد مكانته. وهناك أكاذيب تتحمّل أوزارها الآذان أكثر ممّا يتحمّلها الفم.
واستأنفنا مسيرتنا فاستطردت قائلة:
- وماذا يقول ابن بطوطة هذا غير ذلك عن الأهرام؟
- يقول إنّ الذي بناها عالم خبير بحركات النجوم، وأنه كان قد تنّبأ بالطفوفان؛ ولذلك فإنّه بنى هذ الأهرام التي صوّر عليها كل الفنون والعلوم لحفظها من التلف والنسيان.
وإذا خشيتُ تهكّمات أخرى فقد أسرعت أضيف:
- إنّ ابن بطوبة يؤكد على كلّ حال بأنّ هذه ليست إلا افتراضات، وإنّه ما من أحد يعرف حقّاً ما الذي نُذرتْ هذه المباني له.
- أما عندي فالأهرام لم تُبْنَ إلا لتكون جميلة وجليلة، لتكون أُولى أعاجيب العالم. ولا ريب في أنّه عُهِد إليها بعملٍ ما، ولكنّه لم يكن إلا ذريعة تذرّع بها أمير ذلك الحين.- «عام الجركسّية» [16]
- جركسيّتي! إن يديّ ما تزالان حتى الآن تنحتان في بعض الأحيان أشكال جسدها. ولم تنسَ شفتاي شيئاً.
- «عام الجركسّية» [17]
- ولم أقل شيئاً. وأضافت: «من أيّ طينة أنت لكي ترضى بفقد مدينة بعد أخرى، بفقد وطن بعد آخر، بفقد امرأة بعد أخرى، من غير أن تنافح أبداً، ومن غير أن تندم أبداً، ومن غير أن تلتفت وراءك أبداً؟ ليست الحياة بين الأندلس التي غادرتها والجنّة التي وُعِدْتها غير رحلة. وأنا لا أقصد أيّ مكان ولا أطمع في شيء ولا أتشبّث بشيء، وأنا مطمئنّ إلى شهوتي للعيش، إلى غريزتي للسعادة، كما أنّي مطمئنّ لعدل السماء. أليس هذا هو الذي جمع بيننا؟ إنّي لم أتردّد في ترك مدينة ومنزل وعيش لأسلك سبيلك واعتنق عنادك.
- «عام السلطان التركي المعظم» [18]
- وكنت كلّما تقدّمت شعرت بأنّني انتقلت إلى عالم من الأحلام: إنّ هذه المدينة المبنيّة على هذه الأراضي الجدباء يبدو أنّها لم يكن لها يوماً من مصير غير الخشوع؛ ففي وسطها الحرم الشريف بيت إبراهيم؛ وفي القلب حول الحرم الكعبة، هذا البناء المهيب الذي بودّي الطواف حوله إلى حدّ الإنهاك والذي يحمل كل ركن من أركانه اسماً: ركن العراق وركن الشام وركن اليمن والركن الأسود، وهو أكثرها جلالاً وموجّه جهة الشرق. وفي هذا الركن يقوم الحجر الأسود. وكانوا قد علموني أنّه بلسمه إنّما ألمس يمين الخالق. ويتهالك عليه الناس في العادة بحيث يستحيل تأمّله طويلاً. غير أنّه ما إن مرّت موجات الحجّاج الكبيرة حتى تمكّنت من الاقتراب على هواي من الحجر الأسود وغمره بالقبلات والدموع.
- «عام الاختطاف» [19]
- ... وكنت صادقاً. وما كنت لأحتفظ بفضولي كلّه غير منقوص فقلت:
- كيف نجحت في الخروج من مأزقك بهذه السرعة؟
- بفضل أمّي بارك الله تُربتها! كانت تُردِّد عليّ دائماً هذه العبارة التي أنتهيت إلى حفظها: لا يكون الإنسان معدماً قطّ ما دام في فمه لسان. صحيح أنهم باعوني عبداً مُقيِّد اليدين مُثقِلَ الرجلين، غير أنّ لساني لم يكن مُقيَّداً. واشتراني تاجر خدمته بإخلاص مغدقاً عليه النصيحة تلو النصحية، متيحاً له الاستفادة من تجربتي في البحر المتوسط. وقد ربح كثيرًا من المال حتى إنّه أعتقني في نهاية السنة الأولى وأشركني في تجارته.- «عام أدريان» [20]
- لقد كان عليّ أن أفرّ من الإمبراطورية الإسلامية القويّة لأخلّص طفلاً من انتقام عاهل دموي، وعثرت في رومة المسيحية على الخليفة الذي طالما أردت أن أعيش في كنفه في بغداد أو في قرطبة. وكانت هذه المفارقة تلذّ لعقلي، بيد أنّ وجداني ما كان ليطمئنّ. فهل صمّم على المجيء الزمنُ الذي أستطيع فيه الفخار بذويٌ من غير أن يكون فخاري تّبجحاً يستدعي الرثاء؟
- «عام سليمان» [21]
- ... ووجّهت إلى نور وكأنها كانت أمامي همسة حانقة :« لمَ يحلم الإنسان بقصرْ إذا كان في وسعه الحصول على السعادة في كوخ عند سفح الأهرام!»
- «عام سليمان» [22]
حدائق النور
عدلحدائق النور (بالفرنسية: Les jardins de lumière) رواية تاريخية لأمين معلوف نشرت عام 1991. وتركز على المفكر الديني ماني، مؤسس الديانة المانوية. اقتباسات منها:
- دجلة نهر وحيد الوجهة، على عكس النيل الذي في وسع المرء أن ينحدر فيه مدفوعًا بالتيّار أو يصعّد حسب مشيئة الأشرعة. ففي بلاد ما بين النهرين تنساب الرياح، شأنها شأن المياه، من الجبل إلى البحر، ولا تفعل ذلك قطّ باتّجاه الأراضي الداخلية، حتى لتُضطّر المراكب إلى التباطؤ تبعًا لمشية الحمير أو البغال التي ستقطرُها في طريق العودة إلى مربطها هياكلَ مترجرجة مرتبكة على الدروب الجافّة.
- وفي أقصى الشِّمال، حيث منبعه، ينحدر دجلة الجَموح بين الصخور، والوحيدون الذين يجسرون على امتطائه هم بضعة نوتيةٌ من الأرمن وعيونهم شاخصة إلى فَوَران الماء المُخادع. وإنه لشريان عجيب لا يتلاقى فيه العابرون ولا يتجاوز بعضهم بعضاً ولا يتبادلون التمنّيات ولا الحُمولات. ومن هناك كان الشعر المُسْكِر بأن يُبحر المرء وحيداً، من غير عفريت حارس ولا مواكبة غير مواكبة النخيل على الضفاف.
- تهميد [23]
- وعلى الرغم من أنه لمّا يكد يبلغ الثامنة عشرة فإن ابن طبقة الأشراف «الپارتيين» العليا هذا كان سيُحاط بتقدير لا يوصف لو لم يكن يحمل في نظراته براءة طفولية من كلّ مهابة. فكيف لا يُسقتبل بابتسامات متوقّدة مَنْ يبرز أمام شخص لا يعرفه ويقدِّم إليه نفسه بهذه العبارة : «إنني أحد الباحثين عن الحقيقة!».
- تهميد [24]
- [سيتابي] - الحقيقة سيّدة مُتطلَّة يا «پاتيغ» فلا تتسامح في أية خيانة، وكل إخلاصك حقٌ لها، وكل لحظات حياتك هي ملكها. فهل الحقيقة هي ما تبحث عنه بالفعل؟
- لا شيء غيرها!
- هل ترغب فيها حتى لتتخلّى عن كل شيء من أجلها؟
- كل شيء.
- وإذا طُلب منك أنت غداً أن تحطّم صنماً فهل تفعل؟ ...
إذا كانت الحقيقة هي التي تنشدها حقّاً يا «پاتيغ» فلن تجدها في معانقة امرأة ولا في صُراخ وليد. لقد قلت لك إن الحقيقة مُتطلَّبة؛ أما زلت راغباً فيها، أم تراك قد عدلت؟.- تهميد [25]
- وأي جُحر سوى الوحدة يمكن أن يكون في مشهد المتنسِّكين المنبسِط؟ وسرعان ما تعلّم «ماني» أن يفوز بها ويتعهَّدها ويَحميها من الجميع. وأقام لنفسه بعيداً عن الجماعة فضاءَ عُزلة، مملكةٌ طفل لا تطأها قدمُ رجل قطّ. وكان يهرع إليه ما إن يتسنّى له ذلك. وكان ذلك في مكان تتلوّى فيه ترعة «دجلة» وسط دغل من النخيل المنتصب بعضه لِصق بعض مرصوصاً بشكل نصف قمر، المنحني بعضه الآخر فوق الماء وكأنه يشرب. وكان ينبغي التجرّؤ على تخطّيه ليجد المرء نفسه في شبه جزيرة من العَبَق والظلٌ، ولكنه ظِلٌ لا يطرد النور بل يمتصّه على العكس من ذلك ويُرشِّحه ويُقطِّره ليُغدِقه على أولئك الذين يُحسِنون جناه. وهناك كان ماني يجلس أو يستلقي، يبكي أو يتهلّل أو يحلم. وكثيراً ما كان يناجي نفسه بصوت جهير غير هيّاب من افتضاح سرّه.
- القسم الأول، 2 [26]
- كان ماني يردّد في نفسه قائلاً : «الرحيل عيد، وربما هو العيد الوحيد بألف شكل وألف ثوب من القماش الجَعد أو من خيوط البلّوط. وإذ كان الناس رهائن الأفق فهل احتفلوا يومًا بغير ذلك؟».
- القسم الأول، 6 [27]
- بدا ماني وكأنه يثّبت على نقطة مجهولة من الجدار الذي فوق رؤوس المُحاكمين:
- سواء كانت الأطعمة طاهرة أو دنسة فإن مآلها إلى الفضلات، أفيكون هناك في رأيكم فضلات طاهرة وأخرى دنسة؟
- لقد دعوناك للإصغاء إليك برحمة. فلماذا تبدو بهذا القدر من الازدراء منذ الكلمة الأولى؟
- لا يعتلج في صدري أغِلّ، غير أنكم تدّعون أنّكم أعشتموني في الطهر، وأنا أجيبكم بأن هذا الطهر الذي تبشّرون به لا يساوي شيئاً. تزعمون أن الثمار التي تخرج من أرض «الجماعة» ثمارٌ «ذكور» وطاهرة، أليس هذا ما تقولون؟ لماذا إذن تبيعونها في الخارج للقرويين الكَفَرة الذين يطحنونها بأضراسهم الدنسة؟
- إلى أين تريد أن تصل؟
- الحديث عن أطمعة طاهرة ودنسة محض خرافة؛ ومحض خرافة الكلام على أناس طاهرين أو مدنّسين، ففي كل شيء، وفي كل شخص منا يتجاور «النور» و«الظلمات.»
- ولأجل الاحتجاج على فرضنا الطهارة خلعت ثيابك البيضاء؟
- لا. لقد تزيّيت بهذا الزيّ لأني مزمع على الرحيل.- القسم الأول، 6 [28]
- وكانت محطته الأولى «المدائن». وكانت المدينة الكبرى في وادي دجلة عند ولادة ماني، مقرّ الملوك الپارتيين، وإذا كانت كانت إمبراطوريتهم قد دالت بعدئذٍ على يد الفرس الساسانيين فإن سادة البلاد الجدد استقرّوا في العاصمة نفسها فاحتفظت بذلك بهالتها وازدهارها. لقد امّحى اسم المدائن اليوم. ومع ذلك فقد كانت إحدى عواصم العالم القديم الكبرى ومهد المانوية وموطنًا ساميًا كذلك للمسيحية الشرقية. وغير بعيد من المواضع الذي سيأتي العرب بعد خمسة قرون لإنشاء مدينة بغداد فيه فإنه لا يزال في الوسع مشاهدة آثار القصر الذي حقّق فيه ماني أشهر فتوحه.
- القسم الثاني، 1 [29]
- ... و«ماني»؟ ما الذي حلم به وهو يغادر الطائفة؟ بدين جديد؟ لقد كانت تعتلج في نفسه بالتأكيد تلك الرغبة في التبشير، وتلك التلميحات التي أصبحت كثيرة التردّد الآن بنداء سماوي... وإذا كان الأمر كذلك فكيف يُفسِّر أن يكون «مالكوس» قد سمع من فمه، في المساء الذي جاء فيه «پاتيغ» بالذات، هذه العبارة المحيَّرة: «أتساءل أحياناً عمّا إذا لم يكن سيّد «الظُلُمات» هو الذي يُوحي بالأديان لا لشيء إلّا لتشويه صورة «الله»! أفتكون هذه أقوال رجل دين؟
- القسم الثاني، 1 [30]
- [ماني] - سأعلّم دين الجمال للأمم في أربعة أقطار الدنيا.
- القسم الثاني، 1 [31]
- [الأمير هرمز] - هذا الرجل راوية! وسوف أستدعيه من أجل أُمسيات القّوّاد. هل تعرف الملاحم القديمة «قورش» و«دارا» ومآثر «الأخمينيين» وبطولات سُلالتنا؟
- [ماني] أعرف جيداً حكايات أخرى لم يسمع بها أحدٌ قطّ.
- حكاياتك الأخرى لست راغباً فيها. إن رجالي لا يحبّون الاستماع إلّا إلى الملاحم التي يعرفونها. وإلّا فإلى قصص الصيد. وذإا كنت تعرف شيئًا منها وعرفت كيف تجعلنا نعيشها من جديد فلن تعود خاليَ الوفاض.
- أقوالي لا أبيعها، بل أوزَّعها.
- لستَ، على هذا، تاجراً ولا راوية.- القسم الثاني، 5 [32]
- [ماني] - يحدث أن يظنّ امرؤ نفسه مُستودعاً رسالةٌ في حين أنه ليس سوى نعشها.
- القسم الثاني، 5 [33]
- - إذا كنت تقول ما قال «المسيح» أو «بوذا» فلماذا تسعى إلى إنشاء دين جديد؟
- إن الذين ارتفع في «الغرب» لم يُزهر أمله قطّ في «الشرق»؛ والذي ارتفع في «الشرق» لم يبلغ صوته «الغرب». أفينبغي أن تكتسي كلّ حقيقة ثوبَ مَن تَلقّوها ونَبرَتَهم؟
- أوافق أيها «المعلّم» على أن بعض المعقتدات تستحقّ أن تُحترم. ولكن ماذا عن الوثنيين، وعن عَبَدة الشمس؟
- أتعقتد بأن يشعر ملك بالحسد إذا أنتَ قبَّلتَ حاشية ثوبه؟ وليست الشمس سوى وَشْي على رداء «الله تعالى»، بيد أنّه من خلال هذا الوَشي المتألَّق يستطيع الناس أن يتأمّلوا «نوره» بشكل أفضل. ويظنّ الناس أنهم يعبدون الربوبية في حين لم يعرفوا قطّ منها غير التجلَّيات، تجلّيات من خشب أو ذهب أو جصّ أو رسم أو كلمات أو أفكار.
- والذين لا يعترفون بأيّ إلة؟
- إن من يرفض رؤية «الله» في الصُّور التي تُقدِّم إليه هو أقرب أحياناً من غيره إلى صورة «الله» الحقيقية.- القسم الثاني، 6 [34]
- سئل يوماً:
- ما اسم الذي أنت «رسوله»؟
- أدعوه «مَلِك حدائق النور».
- أليس «الأب»، «القدير»، «الرؤوف»، «خالق» كل شيء؟
- كيف يمكن أن يكون رؤوفاً وقديراً في الوقت نفسه؟ أهو الذي خلق الجُذام والحرب؟ أهو الذي يَدَع الأطفال يموتون والأبرياء يُعذِّبون؟ أهو الذي خلق «الظُلُماتِ» و«سيّدها»؟ وهل سمح بأن يوجد هذا الأخير؟ وإذا كان في وسعه أن يُلاشيه فلماذا لا يفعل؟ وإذا لم يكن يريد مُلاشاة «الظُلُمات» فلأنه ليس رؤوفاً؛ وإذا كان يريد مُلاشاتها ولا يتمكّن فمعنى ذلك أنه ليس قديراً.
و أضاف بعد سكتة قصيرة:
- لقد عُهِد بـ«الخَلْق» إلى الإنسان. وإليه يرجع قبل أي كان أن يجعل «الظُلُمات» تتقهقر.- القسم الثاني، 6 [35]
- [ماني] - لقد بدأ عصر جديد، وهو يستلزم ديناً جديداً، ديناً لا يكون لشعب واحد ولا لعِرق واحد ولا يقتصر على إرشاد واحد.
- القسم الثالث، 1 [36]
- [ماني] - إن لكل شعب تقاليد دُوَّنت في شرائعه وينسبها إلى المشيئة الربّانية. أفتكون هذه المشيئة مختلفة بالنسبة إلى كل شعب؟ الحقيقة أننا لا نعلم شيئاً عن المشيئة الربّانية، ولا نعرف شيئاً عن الربوبيّة، لا اسمها ولا ظاهرها ولا صفاتها. ويطلق البشر على «الله» ما لا يُحصى من الأسماء، وكلّها صحيحة، وكلّها أيضاً باطلة. فلو كان «له» اسم لما أمكن أن يُكتب بكلماتنا، ولا أن تتلفّظ به أفواهنا. يُقال أنه غنيٌ وقويٌ. والغنى والقوة ليسا صفتين إلا على مستوى الناس، ولا يعنيان شيئاً على مستوى «الله». وتنسب «إليه» أيضاً رغبات ومخاوف وحالالت سُخط وغضب، ويقول بعضهم «إنه» يغار من صنم وتسوء حركة ويهتمُ بطريقة كلامنا وعُطاسنا ولُبسنا وعُرينا. وأنا، «ماني»، جئت أحمل رسالة جديدة لجميع الشعوب. وكان أن توجّهتُ أول ما توجّهتُ إلى «الناصريين» الذين قضيت بين ظهرانيهم طفولتي وشبابي. وقلت لهم : أصغوا إلى كلام «يسوع» فهو حكيم وطاهر، ولكن أصغوا أيضاً إلى إرشاد «زرادشت»، وأعرفوا كيف تجدون «النور» الذي أضاء داخل نفسه قبل جميع الناس عندما كان العالم بأسره سابحاً في الجهل والوسوسة. وإذا قُدِّر لأملي أن ينتصر يوماً فستكون نهاية الأحقاد.
- القسم الثالث، 1 [37]
- [ماني] - أنتمي إلى جميع الأديان ولا أنتمي إلي أيّ منها. لقد لُقَّن الناس أن عليهم أن ينتسبوا إلى عقيدة كما ينتسبون إلى عِرق أو قبيلة. وأنا أقول لهم إنهم كَذّبوا عليكم. أعرفوا أن تجدوا في كل عقيدة، في كل فكرة، المادةَ المنيرة وأزيحوا القشور. ومَن يتّبعْ سبيلي يستطيع أن يبتهل إلى «أهورا مزدا» وإلى «ميترا» وإلى «المسيح» وإلى «بوذا». وسوف يأتي كل إنسان بصلواته إلى المعابد التي سأشيدها.
- القسم الثالث، 1 [38]
- إني أُجِلُ جميع المعتقدات وتلك هي جريمتي بالتأكيد في عيون الجميع. فالمسيحيون لا يسمعون ما أقول من خيرٍ عن «الناصري» ويأخذون عليّ عدم الكلام بالسوء عن اليهود و«زرادشت». ولا يسمعني المجوس حين أمجّد نبيَّهم، ويريدون أن يسمعنوني ألعن «المسيح» و«بوذا». ذلك أنهم عندما يجتموع القطيع فإنهم لا يجمعونه على الحبّ بل على الحقد، ويجدون أنفسهم متضامنين فقط في مواجهة الآخرين. ولا يعترف بعضهم بأخوّة بعض إلّا في المحظورات وأعمال الحُرم. وبدلاً من أن أكون أنا، «ماني»، صديق الجميع لا ألبث أن أرى نفسي عدوّ الجميع. وجريمتي هي رغبتي في مصالحتهم فيما بينهم. ولسوف أدفع ثمنا. ذلك أنهم سيتّحدون لِلَعْني. ومع ذلك فإنه عندما يملّ الناس الطقوس والأساطير والنمائم جميعاً فسوف يتذكّرون أنه في يوم من الأيام، في العد الذي كان يحكم فيه «شاهبور» العظيم، رجّع كائن بشري متواضع صرخة في أرجاء العالم.
- القسم الثالث، 1 [38]
- [ماني] - إن من يفرض على نفسه الحرمان لكي يجني المديح لا يستحقّ أيّ مديح، لأنّه أشدّ ادّعاء من أحقر الماجنين. والحكيم لا يصوم إلّا لكي يكون أكثر قُرباً من ذاته، وهو وحده الحَكَم، ووحده الشاهد. وإذا ما حرمتَ نفسك فلا تفعل ذلك امتثالاً لمتطلِّبات جماعةٍ ما، ولا خوفاً من العقاب، ولا حتى رجاءَ تكديس فضائل تُباهي بها في عالم آخَر. إن مثل هذه الحسابات تثير في نظري الاشمئزاز.
حمل پاتيغ نفسه على الابتسام.
- إذا كنت تقول لي يا ولدي إنه يجب عمل الخير لأجل الخير ومن غير النتظار لجزاء فإن فضيلتك تزداد عِظَماً.
نظر إليه ماني آخر الأمر، ولكن نظرة قنوط.
- هل سمعتني يوماً أتحدّث عن الخير أو عن الشر؟ إنّ هاتين الكلمتين لا تنتميان إلى قاموسي! لقد حذّرني «تَوأَمي» السماوي. فسوف أقول شيئاً ويفهم الناس، حتى أقربهم مني، شيئاً آخر. لقد قلت أنّه في كل كائن يختلط «النور» و«الظلمات» وينبغي للفصل بينها مهارة حكيم بأكملها...- القسم الثالث، 2 [39]
- ودفع شاهبور إلى أعماق حنجرته بنوع من الضحك الساخر الأجشّ:
- واخجلتاهُ لكَ يا من يدّعي أنه رسول سلام! تصلّي لكي يحيا من يحكم جميع سيوف الإمبراطورية، تصلّي لكي يمتدّ بي العمر وأنت تعلم أني سوف أواصل الحرب، وأنه سوف يموت آلاف الناس بسببي؟ أليس مخالفاً لدينك أن تُسهم على هذا النحو بصلواتك في مواصلة المذبحة؟
خرجت نبرة «ماني» حيادية ومُرشِدة وكأنه يجهد في الإجابة عن اهتمامات صادقة يُبديها تلميذ حريص.
- ليس على الطبيب الذي يداوي مريضاً، ملكاً كان أو جمّالاً، أن يتهمّ بما سيفعله ذلك الرجل عندما يستوي على قدميْه. والأمر نفسه ينطبق على ابتهالاتي.
- أنت تصلّي إذن من أجل صحّتي، غير أنك لا تذهب إلى حدّ الصلاة من أجل أن أقوى على صدّ العدوّ الذي يهدّد اليوم الإمبراطورية!
- أمنيتي هي أن يُصدّ جميع المحتاجين، وأن تُجنّب، في كل مكان من هذا الكون، المنازل والمعابد والناس والأشجار، وجميع الأجرام السماوية أيضاً، كلَّ قسوة وكل إسفاف، وأن يستعيد الملوك دروب الدَّعَة لأنفسهم كما لجميع من يخضع مصيرهم للأعمال الصادرة عنهم.
- ماذا تُجدي أمنياتك حين يكون العدوّ على الأبواب؟
- ماذا أَجْدَتِ الأعمال الحربية إذا كان العدوّ الآن على أبوابنا؟- القسم الرابع، 2 [40]
بدايات
عدل- أهلي وطن لي في الأدب، ولكنهم لا يمثلون عاملاً حاسماً في واقع وجودي. أحب فكرة هذه العائلة التي تعيش متناثرة في كل أنحاء العالم. الفكرة تعجبني، لكنني لا أحس بالانتساب إليها. إذ أفضل الابتعاد عن المجالس العائلية الكبيرة. ما بقي عندي هو أقرب إلى ظاهرة قصصية لها مكان صغير في رؤيتي للأمور ليس أكثر.
- الأشجار بحاجة إلى جذور على عكس البشر... وأقدامنا إنما تصلح للسير
- لا أستطيع ببساطة استعراض المجتمع بعبثه وألعابه وتسوياته الفاسدة وأن أقول بعدها: ما الضير في ذلك؟ هكذا هم الناس! كلا، لا أستطيع القبول بذلك. لذا أميل دائماً للبقاء خارجاً. هذا الشعور أليم وليس جميل.
- أتمنى أحياناً أن أشعر بالانسجام مع الأغلبية، وبالتواجد في الصميم. لكنني أعلم أن لحظة كهذه لن تكون لي أبداً. فأبقى غريباً إذاً –في كل مكان– في أوروبا، وإذا عدت يوماً ما إلى لبنان، فسأكون هناك غريباً كذلك.
- أحاول التماشي مع هذا، من خلال مخاطبتي لنفسي: نحن نحيا جميعاً في عالم يشعر فيه كل إنسان في نهاية الأمر بأنه غريب، وينتمي لأقليته الخاصة به. أما من يزمع أن يكون كاتباً، فهو دائماً خارج دائرة الإنتماء. لذا فالأدب في واقع الأمر هو الموطن الوحيد الذي أملك اليوم.
- كانت لجدي وجهة نظر تشبه وجهة نظر أتاتورك: ليس على المرء سوى تحفيز الناس بعض الشيء، وتحسين القوانين، ليأتي التحديث بعدها تلقائياً. لكنه لم يأت. وذلك من جراء الاستهانة بالهوة التي كانت قد نشأت بين الشرق والغرب. بالإضافة لذلك شعرت النخبة العربية–الإسلامية بالإنشداد إلى نموذج المجتمع السوفييتي في مرحلة تاريخية معينة.
- ليس لإعجابهم المفرط بإيديولوجيته، بل من موقف المعارض للمستعمر. لقد سعوا بهذه الطريقة لتصفية حساباتهم مع الغرب. في نهاية المطاف، وقعت مجمل هذه النخبة، من المغرب حتى اندونيسيا، والتي كانت تريد تحقيق مجتمع علماني، في شراك الشيوعية. اليوم زال الاتحاد السوفييتي، وزالت معه نخبة التحديث في العالم العربي–الإسلامي كذلك. ومن حل محلها؟ الإسلامويون.[41]
مقابلات
عدل- عليك أن تعرف كيفية الإصغاء إلى الأصوات التي لا تقول الأشياء المتوقعة دائماً، والتي لا تكرر ذكرك للحقائق المعترف بها، وإنما الحقائق الأخرى التي ربما تكون موضع نزاع أكبر وأكثر فائدة وأكثر حكمة.
- صحيح أنني أحببت دائمًا السفر ومقابلة أشخاص. أحب الإصغاء ومشاهدة الحديث. وبعد ذلك، أكتب الأشياء التي قيلت لي. فنحن نسرق بعد ذلك ، وما يخرج من عملية يجب ألا نحاول فهمه أكثر من اللازم ، إذ علينا أن ندعه يفلت من أيدينا.
- الصحافة موجودة في كل ما أقوم به: أحياناً ، من خلال طريقة معينة للقول؛ وأحياناً، من خلال حقيقة أنني أخاطب جمهوراً كبيراً بما يكفي، حقيقة إجراء استطلاعات الرأي .. وهناك كذلك اهتمام معين بالأحداث والأخبار التي تنعكس هنا وهناك في رواياتي وتأتي وكذلك الصحافة.
- فأنا إنسان يسافر حول العالم، ويضع حقائبه ويحاول بناء شيء إذ تم تأسيسه.
- أن التاريخ احتياطي لا ينضب من الشخصيات والأحداث والأمثال والعصور التي يجب إعادة اكتشافها. ومن المؤكد، أننا نختار في التاريخ ما نريد اختياره: فيمكننا إظهار أي شيء منه. ولا أعتقد أنها تقدم تعاليم مطلقة، إنما مادة مهمة، لأنها الذاكرة، وعمق المجتمعات ... ولأنه لا يوجد شيء مما هو موجود اليوم، لن يكون، إذا لم يكن وراء ذلك، سمك تاريخي كامل. ولا يوجد تاريخ "موضوعي" بالمعنى الحقيقي للكلمة. وأعتقد أن كل شخص لديه ذاكرة خاصة به؛ ويعطي الحدث قيمة ليست مماثلة لقيمة الآخرين.
- بعد قراءة كتاب ما، أنا لست هو نفسه بعد الآن. إنه اجتماع... هناك أشياء نوقفها، كما نعتقد، نرد عليها. لكنني لا أكتب لإثارة ردود فعل معينة. وعليك التعبير عن ما تريد التعبير عنه في كل لحظة.
- ... من الضروري أن يعبر المرء عن نفسه بحرية ... الحق في أن يكون أمام الحق في الكلام! وقد لا نريد التحدث... الحق في أن نكون ما نريد أن نكون وليس ما يريد الآخرون منا أن نكون.
- نحن لا نخترع المستقبل من لا شيء. تتم إعادة بنائه من الأوقات الجيدة في الماضي ، ومن الأشياء التي أحببناها في ماضينا: نوع من الجنة المفقودة. وأعتقد أن ذلك يأتي بشكل طبيعي ...
- لبنان بلد يوجد فيه تقليد طويل من المصالحة. وأعتقد أن اللبنانيين من جميع الطوائف يريدون العيش معا بشكل كامل. وإذا كان لديهم حقًا خيار ، فسيريد الناس العودة إلى وقت التعايش. حيث يميل المرء كثيراً إلى الاعتقاد بأن هناك حالة من الانقسام ، وهي نهاية من هذه الأشياء المؤكدة حصريًا ، ويجب علينا ، من خلال عمل مريض ، أن نقول إنه من الضروري أن يتمنى شيء آخر.
- أحد الأدوار الأساسية للكتابة هو تطوير الأساطير الإيجابية. وأستمد من التاريخ المواد اللازمة لبناء أساطير اللقاء والمصالحة. وفي نظري ، تقدم لنا الأندلس الماضية صورة إيجابية عن العلاقات بين الديانات التوحيدية الثلاث وصورة بديلة عن العالم العربي. فعمر الخيام هو بدوره خرافة بناءة تستحق أن تطرح. وهذه الأساطير تجعل من الممكن تصور مستقبل دون تجزئة وصراع.
- التسامح مفهوم، عندما يظل نظريًا ، مقبول من الجميع. وعندما يتعلق الأمر بالبيع بالتجزئة، يميل كل واحد إلى الانضمام إلى قبيلته. وغالباً ما يكون الشخص الذي يدافع عن التسامح معزولًا ...
- إنما التسامح ليس رأياً في الوقت الحالي، بل موقف تجاه الحياة...إنه موقف مبدئي يأتي من حقيقة أنني لبناني وأعيش في بلد تعيش فيه مجتمعات مختلفة معًا. إنها ليست مسألة محو اختلافاتهم الحقيقية: إنما تتعلق بالعيش معا.
- أعتقد أن لدى الناس الكثير من القواسم المشتركة أكثر مما يقولون. الانتماء إلى مجتمع معين لا يلخص هوية شخص ما. وأعتقد أن هوية الشخص مكونة من العديد من المقتنيات وأن أياً منها لا يجب أن يحل محل الطغيان مقارنة بالآخرين.
- أنا من أجل السلام وأعتقد أن هذه المنطقة بأكملها قد عانت الكثير ... فقد عانى لبنان على وجه الخصوص ، وحان الوقت لوقف هذه المعاناة ، للنظر إلى المستقبل بطريقة أخرى. ويمكننا التعايش ، شريطة أن نعيش في بيئة من الحرية والعدالة ، إذ يتم تقييم كل إنسان لقيمته الخاصة ، وليس وفقاً لانتماءاته ... وأعتقد أن هذا الاعتقاد مرتبط بأصولي: عندما نعيش في لبنان، فأول دين لدينا هو دين التعايش.
- يوليو - أغسطس 1996؛ مقابلة مع «La Revue du Liban» [42]
- الفرنسية لغتي بالتبني، نعم، ولكن ليست لغة أماً. وأعترف بأنه أصبحت لديّ علاقة حميمة بالفرنسية... إن اللغة التي استخدمها أكثر هي الفرنسية، خصوصاً في الحياة العامة. صارت الفرنسية هي اللغة التي أستطيع أن أعبّر عن أفكاري بها في شكل أسهل وتلقائي... عندما أقيم في لبنان، ترجع التعابير العربية اليّ تلقائياً. لكنني أعبّر بالفرنسية أفضل. فالكلمات التي يستخدمها المرء باستمرار في لغة معينة تأتيه بسرعة أكثر مما في لغة لا يستعملها كثيراً، وان كان يلمّ بها جيداً. اللغة التي يستخدمها الانسان يومياً تمدّه سريعاً وتلقائياً بالمفردات. صارت لدي علاقة حميمة جداً باللغة الفرنسية.
- كلمة فرنكوفونية لا أحبّها. والأهمّ في نظري هو المضمون الذي يأتي به الكاتب. إنني أتصور أن استعمال كلمة فرنكوفونية ليس واضحاً. وعندما يقال لي انني كاتب فرنكوفوني لا أنفعل، لا أقول لا ولا أقول نعم. هذا التعبير لا أستخدمه ولا يأتيني تلقائياً... في اللغة الفرنسية صفة كاتب «فرنكوفوني» أجدها تؤدّي إلى نتيجة تخالف النتيجة المقصودة منها، وهي أن تميّز بين كاتب فرنسي وكاتب غير فرنسي باللغة الفرنسية. وعوض أن يجمعوا الكتاب الذين يعبّرون بالفرنسية، يفصلون بينهم. ولهذا أعتبر أن تعبير «الفرنكوفونية» غير موفّق.
- الحقيقة، الناحية المضلّلة في الهوية، هي ان الانسان في أوقات كثيرة، يستعيض عن الهوية بعنصر ما من الهوية، ويعتبر ان هذا العنصر، سواء كان دينياً أو قومياً، يختصر أو يختزل كلّ الهوية، بينما الهوية مركّبة من عناصر عدّة. اليوم نحن في عصر يشهد هذا الاختزال. في عالمنا اليوم ثمة اتجاه لاعتبار ان الهوية يمكن أن تختصر في العنصر الديني أو القومي. ولذلك ميّزت في كتابي «هويات قاتلة» بين الهوية والانتماء.
- الهوية استخدمها بالمفرد، والانتماء بالجمع أي انتماءات. ومقولة «انتماءات» هي أدقّ في نظري، لأن هناك انتماءات عدة، ولكن ليست لها كلها الأهمية نفسها. بل لها درجات من الأهمية. والانتماء الذي اعتبره الأهمّ في مرحلة معيّنة قد يصبح أقل أهمية بعد مرحلة تالية.
- فعلاً، لدي شعور بالانتماء إلى العالم، لكن هذا الانتماء هو أحد الانتماءات ولا ينفي الانتماءات الأخرى. انه لا ينفي انتمائي إلى لبنان مثلاً ولا انتمائي إلى فرنسا. اننا الآن في وضع يحتم علينا أن نشعر ازاء أمور كثيرة بالانتماء العالمي.
- اعتقد اننا في حاجة إلى إعادة بناء فكرة الهوية والانتماء. يفترض بالهوية أن تكون ذات مستويات مختلفة وكل هذه المستويات مهمة.
- أتمنى ألا أشعر بأنني غريب حيث أكون، وأتمنى أيضاً ألا يحس أي انسان هذا الاحساس بالغربة أينما كان على وجه الأرض. لكنّ الحقيقة مختلفة، فحيثما كنت، أشعر بأن هناك أموراً لست غريباً عنها البتة، وهناك أمور أحس بغربتي حيالها، سواء كنت في فرنسا أو لبنان وسواهما. هناك لحظات أشعر فيها بأنني منتمٍ، ولحظات بأنني غريب.
- لست من النوع الذي يأخذ النص المترجم ويقارنه بالأصل ويصححه. فأنا عندما أثق بالمترجم أترك له حرية الترجمة والتصرّف.
- إذا قلت أنك تتعاطى مع التاريخ، حينذاك يجب أن تتعاطى مع التاريخ بدقّة وصدق. سواء كنت مؤرخاً أم غير مؤرّخ... إذا أردنا التعامل مع التاريخ يجب أن نتعامل معه بدقة. والهدف من تناول التاريخ هو أن تنقل شيئاً صحيحاً، أن تنقل معلومات صحيحة.
- انني هكذا أتعامل مع التاريخ ومع الرواية. وهكذا أشعر بأنني مرتاح في هذا التعامل معهما. لكنني لا أقول إن كلّ شخص يريد أن يتعامل مع التاريخ والرواية يجب أن يراعي الأصول. أنا هاوٍ للتاريخ ولديّ شغف به ولدي شغف بالرواية، وأحاول أن أزاوج بينهما على طريقتي، ولكن لا أقول ان هذه هي الطريقة الوحيدة.
- كتابتنا للتاريخ هي مقاربة لفهمنا للتاريخ اليوم وكما نحتاج اليه اليوم. التاريخ بحدّ ذاته غير موجود. هناك كمية لا نهاية لها من الأحداث. اننا ننتقي من كلّ مرحلة تاريخية ما نعتبر أنه يملك معنى. وهو معنى يختلف عن المعنى الذي كان يقال به قبل مئة سنة أو مئتين. ثم نعطيه تفسيراً وسياقاً يعنيان لنا شيئاً ما. فنحن في الحاضر، اليوم واهتماماتنا مختلفة. وكلما نظرنا إلى التاريخ ننظر اليه في طريقة تجعله يصل الينا نحن المعاصرين.
- انني أسرد القصص مثلما أحبّ أن أسمعها وشعوري أنّ من علّمني أن أسردها، هو أبي من جهة، ومن جهة ثانية هي القراءات.
- اعتقد أن وظيفة العمل الروائي هي أن يبني عالماً آخر، وأن يساهم في التقارب بين الناس والتلاقي والحوار، وليس في زرع الشقاق بينهم... طبعاً هذا لا يكفي، فإلى جانب الأخلاقي أو «الاتيكي» هناك الجانب الاستيتيكي أو الجمالي. وحين يصطدم الجانب الأخلاقي بالجانب الجمالي، وهذا يحدث، يبقى الانسان حائراً.
- اعتقد أن من واجب الكاتب أن يقول الحقيقة. وما أتمناه أيضاً هو ألا يحدث صراع حضارات. وعلى الكاتب أن يعترف أحياناً بأن التاريخ يتجه اتجاهاً آخر، وعليه أن يعترف أيضاً بأنه من الخاسرين. في عالم اليوم لا أشعر بأنني في معسكر المنتصرين، بل في معسكر المهزومين الذين خابت آمالهم. وشعوري بأن العالم الذي حلمت وأحلم به ليس هو العالم الذي أراه الآن. ولسوء الحظ أيضاً أنني لا أرى أنّه العالم الذي سيعيش فيه أبنائي وأحفادي.
- 11-12-13 مارس 2006؛ مقابلة مع جريدة «الحياة» اللندنية [43]
- أنا لست من الذين يخوضون معركة ضد الأميركيين. أحيانا أجد أنهم يقومون بأعمال إيجابية، وأحيانا أخرى بأعمال سلبية. عندما يقومون بعمل إيجابي أصفق لهم، وعندما تجري انتخابات كتلك التي جرت العام الماضي أصفق وأحترم وأقدر. وفي الوقت نفسه ألاحظ أن الولايات المتحدة تقوم أحيانا بتصرفات غير معقولة، مثل التعذيب الذي لا يليق بدولة مثل الولايات المتحدة. ثم إنه غير طبيعي أن دولة مثل أميركا، تملك قواعد عسكرية في عشرات الدول، وترسل جنودها إلى دول كثيرة أخرى ثم تأتي وتقول لغيرها بأن عليهم أن يخفضوا من ميزانيات التسلح! هذا شأن الأسرة الدولية مجتمعة، ولكي تتمكن الأسرة الدولية من القيام بمثل هذه المهمة، لا بد من آلية معينة تجعل من التدخل العسكري، إذا لزم الأمر، مسألة تتم باسمنا جميعا وليست باسم دولة من الدول.
- فشلوا، أولا لأنهم يتصرفون في العراق كدولة محتلة وليس كدولة محررة، ثم إن حساباتهم هم ليست حسابات العالم.
- الحل الوحيد الممكن، هو أن تكون هناك قوة دولية قادرة على القيام بمهمات عسكرية عند الضرورة. لا يمكن إلغاء التدخل العسكري تماما، ولكن لا يجوز أيضا لدولة من الدول أن تنفرد بمثل هذا التدخل.
- المشكلة تكمن في أن قدرة الغرب على نشر حضارته وصلت إلى حدودها. العالم يستمد كثيرا من حضارة الغرب، ولكن يجب على حضارة الغرب أن تتخطى جانبها الغربي الضيق لكي تصبح دولية وقادرة على استيعاب ما يأتي من بقية أنحاء العالم.
- فإذا كان الغرب يحترم قيمه، عليه أن يحترمها في كل مكان، وإلا فإن ثمة مشكلة لا بد من إيجاد حل لها.
- فإن الطريقة الوحيدة التي تمكّن أميركا من اكتساب شرعيتها الأخلاقية في العالم هي أن تحظى سياساتها وخياراتها برضا العالم وقبوله.
- أين هي القيادة المعنوية المستمدة من الشرعية الأخلاقية؟ القوة العسكرية وحدها لا تضفي شرعية. رأينا ذلك بوضوح تام في العراق. أين تكمن عظمة أميركا؟ إنها في جامعاتها وفي قيمها. إما أن تتعامل أميركا مع العالم انطلاقا من قيمها، وفي هذه الحالة تحتل مكانة كبيرة، أو تتعامل بالعصا. وقد رأينا حدود استعمال القوة في العراق وفي غيره.
- إنها ثقافة يأس صحيح. نحن نتعرض للضربة تلو الضربة. صار لي خمس سنوات وأنا أنظر إلى ما آلت إليه الأمور في العراق وأبكي. بالنسبة لي العراق هو حضارة قديمة وحضارة حديثة. عراق الكتّاب، عراق الموسيقى، عراق الفن، عراق الفكر، عراق القراء. ثلاثة أرباع دور النشر العربية تنشر لقراء العراق! أنظر إلى ما يجري في السودان. السودان كان ينعم بحياة ديمقراطية، والإعلام يتمتع بحرية كبيرة. كانت هناك حياة سياسية وأحزاب. وأنظر إلى لبنان. هل أوضاع لبنان اليوم على ما يرام وعلى ما نتمنى أن تكون عليه؟ كان يجب أن يكون مدخول الفرد في لبنان عشر مرات أكثر مما هو عليه الآن!
- لا يمكن للأميركيين إجبارك على القيام بمثل هذا العمل. هناك خلل فينا يجعلنا نتقاتل ونذبح بعضنا بعضا. أموال كثيرة تدفقت على العالم العربي. ماذا فعلنا؟ هل بنينا مختبرات وجامعات؟ هل أمنا مستقبل الجيل الجديد الضائع في بلدان العالم بحثا عن مستقبل ما وراء البحار؟ من منعنا من القيام بذلك؟ ننتقد الآخرين، ننتقد الغرب، ننتقد الاستعمار، ننتقد إسرائيل، ولكن هذا لا يلغي مسؤوليتنا. من منعنا من بناء أنظمة ديمقراطية؟ لماذا ليست هناك انتخابات حرة وديمقراطية فعلا في كل العالم العربي، باستثناء بلد أو بلدين، إذا كان لا بد من الإشارة إلى هذا الاستثناء؟ لماذا؟ ما الذي يبرر عدم توفر الحريات؟ ما الذي يبرر عدم استعمال الأموال المتوفرة بفضل النفط أو غيره في بناء جامعات، في بناء إنسان، في بناء صناعات، في بناء مستقبل؟ منذ خمسة عقود كان المدخول الفردي في السودان وفي كوريا هو نفسه. ما الذي يفسر الفرق الكبير في المدخول الفردي اليوم في البلدين. ما الذي يفسر هذا التراجع بمستوى التعايش بين الناس؟
- لم أرَ ما يضيء عندي الأمل بالفعل. سأواصل البحث، وسآمل أن يأتي الزمن الذي يمكن فيه للمرء أن يعيش في العالم العربي، وأن يحكي، ويعلو صوته، ويتصرف كمواطن، من دون خوف أو وجل، وأن يكبر أولاده ويقول إنه يريد منهم أن يعيشوا في بلادهم لأن بلادهم تؤمّن لهم مستقبلهم ولا داعي للسفر إلى أوروبا وأميركا بحثا عن الجامعات والعلم، وإن بإمكاننا أن نفخر بإنجازاتنا في هذه الصناعة أو تلك. نملك كل المقومات لكي نتقدم، ولا عذر لنا، وإذا ما أدى هذا الكلام الذي أقوله إلى تحريك نسبة واحد على ألف مما يجب أن يتحرك، أعتبر نفسي أنني أنجزت شيئا ما.
- انهارت الأيديولوجيا فصار الاهتمام ينصب على الانتماء. والمسألة لا تقتصر على الأفراد، بل هي تشمل الدول... والتأكيد على الانتماءات الدينية يزداد أكثر فأكثر في كافة المجتمعات. وصار الناس يعيشون هذه الانتماءات بتوتر وبشكل مرضي. وبالتالي، ازداد التعايش بين الناس صعوبة. وهذا ما يجعلنا نقول إن نهاية صراع الأيديولوجيات أدى عمليا إلى تصاعد الانتماءات.
- الفرق الأساسي بين الانتماء الديني والأيديولوجيا هو أنك تختار هذه الأيديولوجيا أو تلك، في حين أن هويتك الدينية أو المذهبية تولد معك. أنت لا تختار هذه الهوية. تختار طريقتك في ممارستها وفي التعامل معها.
- الحل الأفضل هو أن يتنبه المجتمع للفروقات، ويفهم معانيها وحساسياتها ويأخذ قراراته على هذا الأساس. مثلا: عندما يتم تشكيل حكومة في بلد تعددي، لا داعي للإعلان عن طوائف ومذاهب أعضاء الحكومة، وإنما أن يتم في اختيار الوزراء مراعاة الكفاءة طبعا والحساسيات الدينية التي يتألف منها المجتمع. ما الفرق؟ الفرق ليس شكليا فحسب. عندما تكون مسألة المراعاة ضمنية وليست توزيع حصص، يشعر الجميع بالارتياح. كل الحساسيات تشعر بأنها ممثلة في الحكومة، في الإدارة، في قطاعات المجتمع.. إلخ، ويجعل هذا المواطن يشعر بأن له مكانته في مجتمعه. أما الدخول في مسألة توزيع الحصص فهو الدخول إلى جهنم، إذ يقوم كل فريق بالمزايدة على غيره، وبالمطالبة بحصة أكبر.
- 7 مايو 2009؛ مقابلة مع «الشرق الأوسط» [44]
- لا أشعر ان اليسار كان في حياتي فترة سياسية معينة، وإنما كان غلياناً حقيقياً. وهذا لا ينطوي على أي انكار بل على العكس. إنها فترة عزيزة على قلبي، وفترة انفتاح على العالم وعلى بيئات مختلفة. والعنصر الأساسي فيها كان بالنسبة إلي هو اكتشاف العالم والناس، وهذا لا يمثل عملاً سياسياً. فعلاقتي بالعمل السياسي كانت محدودة جداً مع انني كنت أتابع السياسة وأهتم بها، فلم أكن أنظّر، وكنت أقرأ أكثر مما أكتب.
- وأعتقد أن هناك فكرة خاطئة مفادها ان الكاتب يجب أن يكون محاطاً بمن يعذبه ليتمكن من الكتابة. وهذا ما ينطبق ربما على بعضهم، ولكن بالنسبة الي فإن الكاتب في حاجة إلى الصفاء لينصرف إلى الكتابة وتركيز فكره، وإلا فيكون همه القتال على جبهات عدة في الوقت نفسه.
- أحب كامو بين الفرنسيين ومن الأدب العالمي ليون تولستوي ودوستويفسكي وتوماس مان.
- لعل الإنسان مضطر أن يعود وينظر إلى التاريخ ليفهم العالم الذي نعيش فيه وليحاول أن يفهم إلى أين نحن ذاهبون. وهذه ليست مسألة فكرية فقط بالنسبة الينا، لأنه فرض علينا في شكل أو في آخر ان نهاجر ونتشرد وأن نعيش في مرحلة نشعر فيها ان حضارتنا لا ينظر إليها باحترام وتقدير. وهذا ما يجعل الإنسان يشعر بأنه يعيش في عالم هو غريب عنه وهو في الوقت نفسه ينظر إلى حضارته وما يصدر عن العالم الذي ينتمي اليه، ويشعر أيضاً بالغربة.
- بطبيعتي لا يمكنني القول انني إذا كان لدي وضع متميز في مجتمع معين، فمعنى ذلك أن أنسى الوضع العام الذي يحيطني. وعندما أشعر أن الحضارة التي أنتمي إليها يُنظر إليها سلباً، لا يسعني إلا التأثر بذلك والتألم من جرائه. ولا أتصور أن شخصاً ينتمي إلى هذه الحضارة لا يشعر انه يمر في مرحلة قاتمة من التاريخ. حتى الأشخاص الذين يمكنهم على الصعيد الشخصي أن يتفهموا معظم السلبيات فإنهم أيضاً يتألمون.
- لدي شعور أنني سأكون غريباً أينما كنت... لدي شعور بأن القيم التي أؤمن بها لم تعد هي التي يسير عليها العالم اليوم، لا في الشرق ولا في الغرب. والعالم الذي كنت أحلم به عندما كنت شاباً مختلف عن عالمنا اليوم. طبعاً لا أتصور ان وضع العالم العربي سبق أن كان على ما هو عليه اليوم.
- اننا لم نتمكن حتى الآن من إيجاد الرد، وكذلك القول انهم لم يسمحوا لنا، وكلا القولين صحيح. نحن من جهة ننسخ عن الغرب ومن جهة أخرى نتقوقع حول جوانب معينة من تراثنا في محاولة لإبعاد كل تأثير عنا. لكن النتيجة كارثية، إنها التراجع والتفكك والضياع. إلى أين نحن ذاهبون؟ ما الذي نحاول فعله؟ إنني أبكي عندما أرى ما حلّ بالعراق وبكل المنطقة.
- [ما كان انطباعك عند سقوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين؟] لم أتأسف على صدّام لأنه كان جزءاً من المشكلة. لكنّ الطريقة التي تصرف بها الغرب والأميركيون تحديداً كانت كارثة سياسية ومعنوية. فالأميركيون تصرفوا في العراق بطريقة تتنافى مع كل القيم التي ينادون بها. وحرب العراق فجّرت صراعات طائفية لم يكن مفروضاً أن تنفجر. صحيح انه يمكن القول ان هذه أمور كانت ترقد تحت الرماد، ولكن ليس كل ما يرقد تحت الرمال ينبغي أن ينفجر.
- فعندما بدأت أعي الأمور كنت أحلم بأن يكون لبنان بلداً متطوراً اقتصادياً وفيه مستوى حياة مرتفع وقوانين اجتماعية ومساواة وديموقراطية حقيقية. ويمكنني القول انني كنت أحلم أن يحدث في لبنان ما حدث لإسبانيا خلال الثلاثين سنة الأخيرة. لكن هذا الحلم لم يتحقق ولبنان كان يستحق أكثر مما حصل. والمفروض ألا يكون لبنان بلداً يغادره شبابه إلى أميركا وكندا وأوروبا بحثاً عن عمل. كان حلمي أن تكون في لبنان صناعات وشركات ومختبرات، خصوصاً أن أبناء مناطقنا من الشمال إلى الجنوب لمعوا في جامعات العالم، سواء في العلوم أو الاختراعات، ولدينا قدرات هائلة ومجتمع يكبت هذه القدرات فكرياً ونفسياً واجتماعياً. وما أقوله عن بلدي لبنان يمكن أن أقوله عن معظم البلدان العربية. عندما أرى حال العراق بلد الفن والأدب والموسيقى أُصاب بالحزن. وإذا قارنا منطقتنا بالمناطق الأخرى، نرى انها الوحيدة التي لم تتقدم فيها الديموقراطية منذ خمسين سنة، والحق في ذلك علينا وعلى غيرنا. فالمسؤولية مشتركة. فنحن أخطأنا بحق أنفسنا وغيرنا لا يتمنى لنا الخير.
- فكل انتماءاتي تتعايش لديّ. ونحن في عالم يشهد حرباً مفتوحة بين الغرب والعرب، وكل فرد قادر إلى حد ما على الإبقاء على لغة مشتركة، وقادر على التحدث إلى الجهتين وأن يفهم عقليتيهما، فهذه الممارسة ضرورية.
- الهوية مشكلتي وهي مشكلتنا جميعاً، والعالم اليوم مشكلته الأساسية هي الهوية. فكيف يحدد العالم قدرة الأشخاص على العيش معاً، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية؟ وكيف ينظم الإنسان العلاقة ضمن المجتمعات؟ اتصور ان الهويات هي مشكل القرن الـ 21، في كل المجتمعات العالمية الأميركية والأوروبية والافريقية...
- 9 مايو 2010؛ مقابلة مع جريدة «الحياة» اللندنية [45]
- أنا لا أؤمن بنظرية صراع الحضارات، وحتى ولو كان ما وصف بصراع الحضارات هو واقع، لكن يجب أن نقاومه، يجب أن لا نعتقد أن هذا هو مصير العالم، أن هذا مستقبل العالم، أن هذا هو الوضع الطبيعي للعلاقات بين الشعوب. هذا وضع شاذ ويجب أن نتخطاه، تخطته الإنسانية في مراحل أخرى، ومن الضروري أن نتخطاه في مرحلتنا. لأن العالم لا يمكن أن يستمر إلا إذا تخطينا هذا الصراع إلى نوع من التعايش ليس فقط بين الحضارات، بين الناس.
- عالمنا اليوم تغير كليا، على الصعيد المادي ولم يتغير بما فيه الكفاية على صعيد العقليات قال شاعر عربي في القرن السابع إذا كنت من تراب فكلها أرضي وكل الأنام أقاربي. وأعتقد أن عصرنا الحالي يجب أن يبدأ بتنفيذ هذه الفكرة، فكرة أن مصير الإنسانية، مصير البشرية هو مصير واحد.
- أعتقد أن هناك إيمان بعدد من المباديء في الغرب ولكن انتقادي للغرب، ليس فقط اليوم، ولكن طوال القرون الماضية أنه لا يطبق تلك المباديء السامية في علاقاته مع الآخرين، يعني بريطانيا في بريطانيا لم تكن كبريطانيا في الهند، وفرنسا في فرنسا لم تكن كفرنسا في الجزائر أو مدغشقر، بلجيكا كبلجيكا لم تكن كبلجيكا في الكونغو، والولايات المتحدة في بلادها دولة ديمقراطية عظمى، ولكن تصرفاتها في أمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى من العالم لم ت كن تعبيرا عن تلك الديمقراطية.
- في كل مكان، يجب أن يلتزم أصحاب المباديء بتلك المباديء ليس فقط ضمن حدودهم، ولكن كذلك تجاه باقي العالم.
- ما أبكاني هو بداية الصراع الطائفي في العراق. هذا ما تعذبت وتألمت له. ما شاهدته في العراق في السنوات الأخيرة طبعا أبكاني.
- أنا أعتقد اليوم أن الفشل الذي منيت به الأنظمة التي سقطت مع سقوط جدار برلين هو درس تاريخي يجب أن نلتزم به. ليس هذا هو الحل. الحل هو من خلال الرأسمالية ولكن ليس أي رأسمالية. ليس الرأسمالية التي تعتبر أن الحياة الاقتصادية هي كازينو كبير يلعب فيه الناس بمصير الملايين. ما نحن بحاجة إليه اليوم هو حياه أقتصادية فيها حد أدنى من الإنسانية، من احترام الإنسان، من القيم.
- كان يقال في الماضي أن أعرابية سئلت: من أحب أبنائك إليك؟ فقالت المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود. وأقول الشيء نفسه بالنسبة لهوياتي. عندما يكون هناك مشكلات في لبنان فأنا أتألم وأشعر بأني لبناني أكثر، وعندما يكون هناك مشكلات في أوروبا أتصرف كأوروبي.
- 21 أكتوبر 2010؛ مقابلة مع «يورونيوز» [46]
- إنني مقتنع تماماً بأن المشاكل في العالم سببها الأساسي ثقافي وحلّها أيضًا ثقافي. ومن السذاجة الاعتقاد أن حبّ الثقافات الأخرى يأتي بمجرد التعرف عليها. فبإمكاني ذكر أسماء العديد من الأشخاص ممن تعرّفوا عن كثب على بعض الثقافات ولكنهم بالرغم من ذلك لم يستلطفوا أصحاب هذه الثقافات من جهة أخرى، فأنا مقتنع أيضًا بأن تعريف الناس في المجتمعات المختلطة بثقافات الآخرين يؤدي على المدى الطويل إلى الاحترام المتبادل وإلى تسهيل عملية التعايش.
- يونيو 2012؛ مقابلة مع مجلة «الثقافية» للجامعة الأردنية، العدد 81 [47]
- طبعا قدرة الكاتب على تحويل مجرى التاريخ محدودة للغاية لكن من واجب الكاتب أن يحاول. اعتقد أن معظم مشكلات العالم حاليا، وهو أمر لا يقال دائما، مشكلات العالم الآن ثقافية. هناك هوة ثقافية ليس فقط بين العالم العربي والغرب ولكن في العالم كله وفي كل مجتمع صراعات أو تنافرات لها خلفية ثقافية أحيانا ثقافية دينية أو لغوية أو اثنية أو عرقية كافة أنواع الثقافات. لكن الصراع في رأيي ذا طابع ثقافي في القرن الحادي والعشرين وشعوري أن الحلول كذلك يجب أن نجدها على الصعيد الثقافي.
- 16 يونيو 2012؛ مقابلة مع «راديو سوا» [48]
- الكلمات ضرورية لأنها تعبير عن إرادة الحياة، ومقاومة الهمجية. اعتقد اليوم اننا قاصرون عن التفكير. نطلق أفكاراً من دون أن نستتبعها بمناقشات مستفيضة. واذا فعلنا فغالبا ما نستخدم المهاترات والقدح.
- صحيح ان الأمور لا تسير في الاتجاه الذي نريده، ولكن التاريخ لم يبخل علينا بالمفاجآت.
- من غير المقبول أن يُنظر إلى أي شخص كجزء من الجماعة فقط. فالعلاقة مع السلطة العامة تمر عبر المواطنة. أنا دائما متوجس وحذر عندما تتعامل السلطات العامة مع الجماعات. الشعور بالانتماء إلى جماعة هو شعور شخصي يمارس في إطار خاص وفردي.
- عندما يصبح الإيمان حقودا، طوبى لأولئك الذين يشككون!
- في الغبش، في تلك اللحظة التائهة بين الضوء والظلمة يتفتح المرء، ويتمدّد تفكيره وبصيرته وذاكرته، كما حاجته للفن والأدب والشعر
- لا يمكن أن يكون أي دين موضع اتهام كدين. فنحن نبالغ في إعطاء أهمية للنصوص الدينية لأن أي نص، سواء كان دينياً ام فلسفياً، يصبح عامل تراجع من لحظة الاعتقاد بعدم المس به. لدي شكوك كبيرة بشأن تأثير الدين على المجتمع. في الواقع اظن ان المجتمعات هي التي تكيّف الأديان. أوروبا هي التي كيّفت المسيحية. أوروبا عصر التنوير حولت المسيحية وصنعت منها دينا متوافقا مع الديموقراطية، مع التقدم، ومع العلم. انه دور الانسان في تحويل العقائد أدوات للتقدم وحضارة أو ادوات للتقهقر والهيمنة.
- طوال شبابي كنت احلم أن يتغير المجتمع اللبناني تدريجياً وأن يتوقف الانتماء الديني عن أن يكون عاملاً حاسما في الحياة الاجتماعية والسياسية. للأسف، حدث العكس. بدلاً من تخلي لبنان عن الطائفية، ها نحن نشهد تمددها خارج لبنان إلى دول الشرق الأوسط. حتى في فرنسا حيث تبدو هذه الفكرة أكثر عبثية، تسهم في ذلك مجموعة عوامل غير مرتبطة بتطور فرنسا. أعتقد أنها ظاهرة عالمية.
- 27 مارس 2016؛ مقابلة مع «القبس» [49]
- التاريخ مادة أساسية لأنني من خلال التاريخ أستطيع الدخول إلى عالم الرواية بشكل أفضل.
- لي ذكريات جميلة في دبي... أعجبني التنوع في أسلوب عيشها كما هو التنوع في سكانها وطعامها الذي يشكل ثقافة عالمية بنكهة خاصة، أمضيت عدة أيام اطلعت فيها على بعض جوانب المدينة التي علقت كثيراً في ذاكرتي.
- 25 أبريل 2016؛ مقابلة مع «البيان» [50]
- تنتمي أسرتي الأبوية إلى الجبل اللبناني. أيضا، جدَّاي من جهة أمي أصولهما لبنانية، لكن كالعديد من اللبنانيين خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هاجروا نحو مصر وتزوجوا وقضوا هناك معظم حياتهم. ولدت أمي في طنطا، ثم قضت طفولتها في هليوبوليس (مصر الجديدة)؛وقد حافظت بهذا الخصوص على ذكريات جميلة، مثلما أخبرتني بها. حينما أتكلم عن طفولتي، يلزمني التحدث عن هذين البلدين المشرقيين الجميلين، مع احتفاظ كل منهما على خصوصيته.
- أعتقد بأن موطني الأصلي امتلك الكثير من المؤهلات كي يلعب دورا طليعيا على مستوى محيطه الإقليمي وكذا العالمي. نجد هناك أشخاصا نوعيين جدا، تمتعوا بمستوى كبير من التعلم والكفاءة، وكذا امتلاكهم تجربة فريدة عن حياة مشتركة بين أفراد لهم أصول مختلفة واعتقادات متعددة. بفضل هذه العوامل، كان لبنان مؤهلا كي يضم مختلف الطوائف داخل وطن واحد ديمقراطي وحداثي، ثم أن يقود منطقة واسعة جدا نحو سبيل تطور حقيقي. لكنه استسلم لتقلبات التعصب الطائفي. يلزمنا دائما التطلع إلى كون لبنان سيتجاوز هذه الحقبة القاتمة من تاريخيه، لكن بدا لي دائما بأن العقود الأخيرة شكلت فرصة ضائعة.
- لا أشعر بأن موطني الأصلي سيتمكن من الإمساك بزمام مصيره، بل يعتبر في غالب الأحيان ضحية لمختلف مايجري حوله.
- يتعلق الأمر حقا بجرس إنذار، أعتقد بأن الكون ينحرف صوب أزمات أساسية، قد تمس مختلف المجتمعات. بوسعنا كذلك تجاوز الأسوأ، لكن الأجل المتبقي في حوزتنا كي نأخذ بزمام الأمور يبقى متناهيا. لذلك،ينبغي لكل واحد إدراك طبيعة المخاطر المتربصة بنا...
- أعتقد على امتداد التاريخ، كلما حاول بلد استبعاد الأقليات بهدف أن يصبح متجانسا أكثر، إلا و أدى تكلفة باهظة جدا... لدينا أمثلة كثيرة عن دول تطلعت نحو طرد عناصر بدت لها غريبة عن الوطن، اعتقادا بأن الأخير سيصبح أكثر قوة عندما يتخلص من تلك العناصر الطارئة. لكن التاريخ أوضح بأننا لانعمل سوى على تثبيت معطيات الضعف حين ملاحقة سراب التجانس، وينتهي المآل بالبلد إلى إضاعة جوهره.
- لقد وعدت الشيوعية بتغيرات كثيرة، فأثارت بالنسبة لكل المجتمعات انتباه العديد من أفراد يحظون بمكانة، لكنها عجزت عن الوفاء لوعودها. ما أتحسر عليه، من جهتي، أن النقاش الفكري، الذي ساد على نحو كبير خلال فترة معتبرة من القرن العشرين، اختفى اليوم، وحلت محله إقرارات هوياتية تحريضية، عنيفة غالبا. تطور يدعو إلى الحسرة قاد مختلف المجتمعات الإنسانية نحو التفتيت، ويمثل ذلك في نظري تراجعا أخلاقيا وفكريا.
- صحيح بأني أتكلم غالبا عن الحزن، لاسيما عندما ألاحظ مآل البلدان التي تجمعني معها روابط، وأنا أراقب مصير انحرافها، مع أنها كانت واعدة جدا. أعتقد أحيانا بضرورة الإفصاح عن المشاعر التي تنتابنا. في ذات الآن، يلزم التسامي عن الأحاسيس الذاتية قصد تحليل الوقائع بهدوء دون الاستسلام لمتاهة الحنين أو الحزن.
- في الوقت الحالي، تفاقم تأثير التأكيدات الهوياتية على مختلف المجتمعات البشرية. لم يبق شيء كبير من النظام العالمي الذي توطد بعد سقوط جدار برلين. مما أحدث تداعيات شملت آثارها الكون قاطبة. بينما يمتحن المشرق، منطقة انتمائي الأصلية، اضطرابات غير مسبوقة، تواجه أوروبا وكذا باقي العالم أزمة جسيمة جدا. نزوع نحو التجزئة والتحلّل يباشر عمله، بوسعنا تلمس نتائجه على كل المجتمعات الإنسانية.
- «التيه» بمثابة الوصف الأول الذي يقفز إلى ذهني. نحتاج وسط عالم بلا معالم مرشدة، إلى بوصلة سياسية وأخلاقية جديدة. كان بوسع الولايات المتحدة الأمريكية، التي صارت القوة العظمى الوحيدة بعد نهاية الحرب الباردة، أن تهيئها لنا، لكنها بدت عاجزة عن القيام بذلك؛ وأوروبا، التي امتلكت الصفات الرئيسة كي ترفع التحدي، عجزت بدورها. توجد بالتأكيد، قوى صاعدة أو «منبعثة ثانية»، مثل الصين، الهند أو روسيا، والتي تلعب دوراً عالمياً جوهرياً. لكنها لازالت تفتقد إلى رؤية متكاملة بوسعها اقتراحها على بقية العالم. لقد أدركت البشرية مرحلة مفارقة: نعيش عصراً ذهبياً من الناحية العلمية والتكنولوجية، في المقابل لانعرف طبيعة وجهتنا، بحيث نظهر في الوقت الراهن عاجزين عن مواجهة التحديات الكبرى، مثل الاضطرابات المناخية، وكذا تدفق الهجرات أو السباق الجديد نحو التسلح.
- لا أظن أن التاريخ يتدبَّر لنا خلاصات بديهية، بل يبقى منفتحا على العديد من التأويلات. يرويه كل واحد منا بالطريقة التي تناسبه، ولا أخالف بالتالي ثبات القاعدة...
- مصدر مختلف الكوارث الكبرى للقرن العشرين تلك الإيديولوجيات المناهضة للدين بشدة، مثل الستالينية، النازية أو الفاشية. ثم عرف القرن الواحد والعشرين عودة قوية للدين إلى مضمار الحياة السياسية. يظهر الأمر بوضوح في العالم الإسلامي، لكنه يتجلى أيضا في أمكنة أخرى. قناعتي الشخصية بهذا الخصوص، أن البعد الروحي ضروري لكل المجتمعات البشرية، شريطة عدم ظفره بأهمية زائدة عن اللازم. تكمن إحدى التحديات الأساسية لعصرنا، في مدى نجاحنا بخصوص فصل الانتماء الديني عن أسئلة الهوية، وهي ليس فقط مهمة المسؤولين الدينيين، ولا المؤمنين. بل يلزم المجتمع برمته المساهمة في هذا المجهود المرتكز على صيانة البعد الروحي، دون السماح مع ذلك للدين باقتحام مختلف مظاهر الحياة السياسية، الفكرية والمجتمعية. ستكون معركة من هذا القبيل صعبة وطويلة الأمد داخل العديد من المجتمعات البشرية وبالأخص في العالم الإسلامي.
- من الأفضل عدم تداخل مجالي الدين والسياسة، وإلا فإنهما سيعانيان معا.
- فيما يخصني، أشعر بالرعب بسبب إمكانيات التدمير التي صارت رهن إشارتنا ويمكن أن توظف في يوم من الأيام. إذا نزع أسلافنا المنتمين لفترة ماقبل التاريخ نحو إخافة المقتربين منهم بدقات هراوات كبيرة، فقد كان الخطر عند الكائن البشري، فاقدا للمعنى. وضع اختلف، مع صيرورة عصر الأسلحة النووية، الكيميائية أو الجرثومية. وسط عالم تسوده الأنانية المقدسة وكذا هيجان الهويات، سنفتقد باستمرار للطمأنينة!
- بدلا من الاستسلام إلى اللامبالاة وكذا الإحباط، يلزمنا الوضع بكيفية مستعجلة إلى الوعي بالأخطار، والسعي نحو إيجاد الحلول.
- أنا من الذين يجدون عالم اليوم، رغم مختلف المشاكل المطروحة، فضاء رائعا للحياة. لو كان في وسعي الاختيار بين هذا القرن والقرون السابقة، فسأبقى هنا حيث أنا فقط، ينبغي صيانة المستقبل للجميع. فلا أريد لأحفادي أن يصادفوا أمامهم حقبة أكثر تعاسة مقارنة مع الحقبة التي عشتها. يجدر بنا تأسيس مجتمعات أكثر عدالة، متجهة بقوة نحو المعرفة، مرتكزة حول القيم البشرية، وليس الخداع أو الإفساد. لايتعلق الأمر بالقطع نهائيا مع القائم، بل العمل على التأسيس انطلاقا من الأفضل المتوفر لدى معاصرينا.
- عندما أتحدث عن الشرق، يستحضر ذهني مثالين اثنين، مختلفين جدا، أحدهما عن الآخر.الرئيسي يعيدني إلى لبنان، حيث عشت غاية بلوغي سن السابعة والعشرين، أما المثال الثاني، فأقصد به مصر، بلد أسرتي من جهة أمي. فقد أنطوى كل واحد منهما على جوانب مثيرة وواعدة، لكن أيضا معطيات اقتضت نقدا لاذعا،والتي قادت في نهاية المطاف صوب إخفاق النموذجين.
- افتقد العالم لسمة تجعله يستحق تسمية نظام عالمي. فالقوى الدولية بصدد تكريسها أنانية مقدسة، ونحن على درب سباق جديد للتسلح، واختفت كل آلية للتضامن قصد مواجهة الاضطرابات المناخية مثلا، بل ونلاحظ ذيوعا للريبة حول السلطات الدولية التي بوسعها مواجهة أخطار من هذا القبيل. طبعا ونحن بصدد الحديث عن الموضوع، يحضر حتما لدى الشباب وعي حقيقي بخصوص الأخطار البيئية، لكن لم تتحقق عمليا أي مبادرة تجاري مستوى هذا الخطر. مما يدعو إلى القلق.
- تعتبر الثقافة حاليا أكثر أهمية من أي وقت مضى. لأن الإشكالية ثقافية في نهاية المطاف. هناك حقب أخرى في التاريخ واجهت خلالها البشرية مشاكل واقعية وعجزت عن إيجاد حلول لها، إما بسب افتقادها للمعرفة، أو لانعدام الوسائل الضرورية.
- نفتقد فقط، إلى القدرة على إرساء علاقات حقا وطيدة تربطنا بالآخرين. فماهي الوسائل التي يمكننا بواسطتها الشعور بوحدة المصير ارتباطا بالإنسانية جمعاء؟ أعتقد بأنه مشروع لن يتحقق سوى بالثقافة، وكذا معرفة عميقة، حميمة، بثقافة الآخر (متونه الأدبية، موسيقاه…)، مما يؤهل للقطع مع الأحكام الجاهزة.
- أعتقد بأن الوضعية الحالية خطيرة جدا، وعلى الأرجح لن نتفاعل مع ما يجري إلا حين حدوث هزات كبرى، حينئذ ستحدث انتفاضة. لابديل ثان أمامنا. فلا يمكننا السماح لأنفسنا باختيار سبيل الغرق، وكذا نهاية الحضارات.
- في العالم العربي تمنح أموال النفط (البترودولار) بعض المجتمعات التقليدية نفوذاً سلبته من المجتمعات الأخرى. وبالتحديد السعودية، التي ازداد نفوذها، بينما مصر، التي لا تمتلك نفطاً ولكنها تلعب دوراً ثقافياً وسياسياً هاماً، شهدت تراجعاً لدورها.
- لو طوّر لبنان نظاماً فاعلاً، لكان ذلك قد ساعد المنطقة بكل تأكيد على النهوض بدلاً من جرّها إلى الأسفل. علاوة على ذلك، فإن تلك المنطقة ليست كأي منطقة، فهي مهد الأديان السماوية الثلاثة، وهي بمثابة نافذة عرض: لو وُجد تعايش حقيقي في تلك المنطقة بكل تاريخها ومصاعبها، فإنه سينتشر إلى مناطق أخرى.
- كانت حرب 67 بداية لنهاية قومية عربية سعت رغم انها ليست علمانية بحتة، إلى تحقيق المساواة بين جميع الطوائف وفصل الدين عن الحياة السياسية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت النزعة القومية تستند أساسا إلى الدين، وكان الصراع بين العرب والإسرائيليين عاملا حاسما في هذا التطور، لأنه كان ذريعة لجميع أولئك الذين لا يريدون تغييرا حقيقيا. ولكن الأخطر من الصراع نفسه هو السبيل للرد عليه… مشكلة العالم العربي هي اننا لم نقل في اية لحظة سنحرز تقدما و سنري كيف نحل هذا الأمر. كان هناك هاجس مشلول للغاية و مُفقرٌ مستمر حتى اليوم.
- لقد سقط الغرب في فخ الوهم الذي أوجدته تلك الحركة، التي اتخذت اسما مزيّفا جدا، كما لو كانت خلافة أو دولة، وهذا أمر سخيف. انها ببساطة جماعة راديكالية، شبيهة بتنظيم القاعدة، والتي بسبب عدم استقرار العراق وسوريا استقرت في أحد أقاليم البلدين. وأعتقد أن الغرب قد أعطاها الكثير من الأهمية ليتكون قادرة علي إعلان انتصار ما في يوم من الأيام
- أرى أنه من المستحيل تجنب فترة من الاضطرابات، والتي اسميها غرقاً. سيحدث، نعم، ولكن بعدها يجب البناء، لن يكون ذلك نهاية العالم. إذا فكرتُ في شعوري العميق، أود ان أقول اننا سنمضي فترة صعبة للغاية ولكننا سنستعيد عافيتنا وسنحاول بناء الأشياء علي أسس أفضل. نحن بحاجه إلى البقاء هادئين، لأنه يتعين علينا بناء عالم قادر علي العمل. ليس ثمة حلول إعجازية، لكن ينبغي التفكير في طرق جديدة للتعايش، وهو أمر مُلزم لنا. ليست هناك عوالم أخرى من غير عالمنا هذا لنتقاسمها، لذا ينبغي تنظيم العيش بيننا. وهذا ليس سهلا، ذلك يتطلب الاحترام المتبادل ورؤية للإنسانية والهوية تحتاج إلى عمل أكثر. كما يتوجب علينا ان نحاول استعادة أيديولوجية عالمية، شيء يضم جميع الحضارات كما فعلت في السابق الاشتراكية والشيوعية، دون السقوط في مطابتهما. انه عمل هائل ينتظرنا، وقبل كل شيء، مفتوح للأجيال الشابة، التي ستعيش في السنوات الأربعون أو الخمسون المقبلة.
- لا يمكننا القول أنه لا توجد حلول، لأن مسؤوليتنا هي إصلاح هذا العالم. علينا أن نتعايش معا، وعلينا أن نبني حياتنا المشتركة على أرض صلبة، ونحن بحاجة إلى إيجاد حلول. ولا أظن أن اليأس والتشاؤم أحد هذه الحلول.
- ما زلت لبنانياً، لكني أصبحت فرنسيًا أيضًا. أنتمي إلى كلتا الهويتين ولا أريد الانفصال عن أيّ منهما...الموقف الوحيد المعقول، من وجهة نظري، هو تشجيع كل شخص يملك أكثر من هوية على قبول تعدّد هوياته، والعيش في وئام مع كل منها.
- اهتمامات الناس هي نفسها في بيروت أو الجزائر أو مدريد أو بوغوتا. يسأل الناس عن الشيء نفسه، لديهم التطلعات العميقة نفسها. يريدون أن يعيشوا حياة أفضل، وأن يكون لديهم المزيد من الكرامة، وأن يكونوا في بيئة تسمح لهم بتطوير ملكاتهم الشخصية. أنا مقتنع بأنه لا توجد اختلافات كثيرة بين تطلعات العالم العربي وتطلعات العالم الغربي. لا يوجد أيّ تعارض، على الرغم من أن التاريخ عرف أزمنة ظهرت فيها حضارات أفضل من غيرها. ومع ذلك، يتغيّر العالم اليوم بشكل ملحوظ، إنما الهدف النهائي هو إرادة الناس ونزوعهم لتحسين حياتهم.
- لا أعتقد أن أيّ حركة دينية يجب أن تلعب دورًا لصالح الديمقراطية أو ضدها. أعتقد أنه يمكن للشعوب أن تكون ديمقراطية، وأن يكون لدى المجتمع نظام قائم على الانتخابات، وأيضًا يمكن لهذا الشعب في الوقت نفسه أن يكون لديه المعتقدات الدينية التي يريدها. لا أؤمن بأيّ نوع من التواؤم أو التعارض بين الدين والنظام السياسي، لأنهما كيانان مستقلان.
- يجب أن يدرك الشباب الحاجة إلى التغيير. الفرق بين أجيالنا والأجيال الجديدة هو أن الشباب لديهم إمكانية الوصول إلى جميع الوسائل لتنفيذ هذه التغييرات. أنا متفائل حيال ذلك. نعم التغييرات ممكنة.
- نحن في فترة نحتاج فيها إلى إعادة التفكير في العالم من أجل إعادة بنائه. نقف اليوم أمام حالة غرق تتحطّم فيها سفينتنا، ثمة دمار غير مسبوق، أخلاقي، اقتصادي، وصحي، ونحن بحاجة ملحّة لإعادة البناء.
- آمل في أن يوقظنا هذا الاهتزاز [جائحة كورونا] ويجعلنا نفهم أنه لا يمكننا السماح لأنفسنا بالانجراف 10 سنوات أخرى. نحتاج حقاً إلى تجميع أنفسنا معاً في أعقاب هذه الأزمة والقيام بشيء آخر في حياتنا وعالمنا. لا أعتقد أننا نملك رفاهية الراحة أو الاستقالة من مهماتنا. وأكاد أجزم أن ما يحصل اليوم هو في الواقع دعوة الاستيقاظ التي احتجنا إليها لنجمع أنفسنا من جديد ونعيد التفكير في المغامرة البشرية بأكملها.
- [عن انفجار مرفأ بيروت 2020] كيف يمكن تفسير أن هذا المستودع بقي مليئاً بالمواد المتفجّرة لفترة طويلة؟ إهمال؟ إشارة لدولة لاتزال قابلة للانفجار؟ حتى وإن كان يمكن أن تنفجر «القنبلة»، عرضيّاً، فما حدث ليس «كارثة طبيعية»، بالتأكيد. الصدفة والحظّ السيِّئ لا علاقة لهما بهذه المأساة، إلّا لتحديد أنّها حدثت هذا العام، لا العام الماضي أو الذي سبقه. ما تسبَّب في هذه الدراما هو الفساد، هو الإهمال. إن وجود هذه الشحنة من النترات، في هذا المكان، أصلاً، ولعدّة سنوات، لا يمكن تفسيره إلّا بإرادة بعض المافيا المحلّية بيعَ هذا المنتج، عندما تصبح الفرصة سانحة. وإذا لم تتدخَّل السلطات، بالرغم من التحذيرات التي وُجِّهت إليها، فلأن البلاد مليئة بالمناطق الخارجة عن القانون، حيث تنخرط الفصائل المختلفة في التهريب المربح. لا شيء من هذا عَرضيّ، طبيعيّ، أو يُعزى إلى سوء الحظّ…
- إن اضطررت إلى الإشارة، بإصبعي، إلى العامل الأكثر تحديداً، الذي يفسِّر أكثر من غيره، لماذا لم تتمكَّن لبنان من مواجهة التحدِّيات العديدة التي واجهتها منذ ولادتها، فسأشير- دون تردُّد- إلى الطائفية.
- ما يشكِّل مشكلة ليس وجود أقلّيّات عديدة وغير متشابهة؛ فهذا أمر واقع، وهو سبب وجود البلد، وكان ميّزة أساسية لنجاح النموذج اللبناني وإشعاعه. المشكلة، في نظري، هي المشروع الوطني…الذي يرتكز على تجاوز مختلف الانتماءات للأقلّيّات نحو انتماء وطني مشترك، والذي لم تتمّ متابعته بالطاقة والوضوح اللازمَيْن، بالشكل الذي جعل المواطنين يصبحون ملزمين، وأحياناً رهائن للزعماء السياسيين والدينيين لأقلّياتهم، الذين هم- بدورهم- أصبحوا ملزمين ورهائن للأجانب الذين يحمونهم.
- من الواضح أنّ وجود دولة قويّة وحاضرة، فقط، هو ما يمكنه أن يوحِّد الشعب اللبناني، يقويّ الروابط بين المواطنين والسلطات العامّة، ويقلِّص من شكل اعتماد اللبنانيين على زعماء أقلّيّاتهم. وقد أدّى انعدام الثقة في دور الدولة، إلى تقويض هذا التطوُّر الذي يُعَدّ ضرورياً.
- تأسيس أمّة على أساس انتماء ديني، أو عرقي أو عنصري، هو فكرة جدّ خاطئة، سبَّبت الكثير من المآسي عبر التاريخ، وستكون- بالتأكيد- غير متوافقة مع روح بلدي الأمّ. الفكرة التي سادت تأسيس لبنان، هي فكرة جعل الناس من جميع الطوائف، وكلّ الأصول، يعيشون معاً، بتنظيم علاقاتهم بالشكل الذي يجعل من كلّ شخص من بينهم يحسّ بأنّ البلد، بأكمله، يعود إليه. لا أدّعي، بالتأكيد، أنّ التجربة نجحت أبعد من ذلك، لكنّي لم أستسلم، أبداً، للحكمة المتواضعة والكسولة التي تقوم إن مثل هذا التعايش مستحيل.
- السؤال ليس معرفة ما إن كان الأفراد المختلفون، من حيث اللون أو من خلال الاعتقاد، يمكنهم العيش معاً، أو أن يطلق عليهم (مواطنون). السؤال يتعلّق بمعرفة كيفية جعلهم يعيشون معاً، وكيف نجعلهم يحسّون بأنهم جزء من أمّة واحدة. وفي هذه المسألة، التجربة اللبنانية (حتى وإن لم تنجح حتى الآن) يجب أن تبدأ، من جديد، في لبنان وفي أماكن أخرى، حتى تبلغ النجاح.
- أن تكون مستقلّاً، اليوم، بالنسبة إلى بلد مثل لبنان، يعني أن تكون قادراً على قول «لا»، عندما يكون هناك سعي لإقحامها، بالقوّة أو بالتهديد، في نزاعات ليس لها الرغبة في خوضها، وليس لها، بوضوح، مصلحة في المشاركة فيها.
- بلدي الأمّ ليس له ميل ليكون مركزاً عسكرياً متقدِّماً في الصراع الإسرائيلي العربي. ليست له أيّ مصلحة في أن يتمّ استغلاله، لا من قِبَل القادة الإيرانيين، ولا من قِبَل أولئك الذين يعملون على خنقهم. ولم تكن له أيّ مصلحة، أمس، في التدخُّل في الحرب الأهلية السورية؛ لا من أجل مساعدة نظام الأسد، ولا لمساعدة الثوّار. كلّ هذه الأخطاء ناتجة عن فقدان لبنان القدرة على اتّخاذ قراره بنفسه باعتباره راشداً.
- أن تكون لبنانياً معناه أن تؤمن، بعمق، بالحاجة الملحّة إلى تعايش مشترك منسجم، و- ربَّما- حتى اندماجي، بين مختلف مكوِّنات الإنسانية… وفي هذا، أنا لبناني، وسأبقى كذلك إلى آخر نَفَس.
- فردوسي هو الأدب، انتقلت من بلد إلى آخر ومن حياة إلى حياة أخرى، لكن الأمر المشترك فيهم جميعا هو اهتمامي بالأدب، وقد يكون هذا مصير كلّ المهاجرين، لأنّ الهجرة فيها نوع من الأسى، ومن أفضل الأشياء التي تواجه الأسى هي الأدب.
- فرنسا هي وطن ومنفى، فهي من البداية لم أكن أريد أن أعيش في وضع مؤقت بفرنسا، ففي كتاباتي أقول دائما إن الإنسان له مجموعة من الانتماءات للبلد الذي وُلد فيه والبلد الذي عاش فيه وعمل فيه والانتماءان لا يتناقضان.
- حينما كنت في لبنان كنت أعمل في صحيفة «النهار»، وكنت أكتب بالعربية، وعندما انتقلت إلى فرنسا كنت أشعر بأن الغربة أصعب إذا كان الإنسان لا يتحدث مع من حوله بلغتهم، ففضلت أن أكتب بالفرنسية، ولعلي لو هاجرت إلى البرازيل لكتبت بـالبرتغالية.
- أنا عندي شغف بالتاريخ منذ الصغر إلى الآن، وبرغم أنني أقرأ أدبا وروايات، فإنني أهتم كثيرا بالتاريخ.
- [بوجهة نظرك، ما السبب الرئيسي لغرق الحضارات؟] السبب المركزي لذلك هو أن تطور الذهن عندنا لم يرافق التطور العلمي والتكنولوجي والاقتصادي.
- 19 أبريل 2021؛ مقابلة مع جيزال خوري [67]
- في حين أن اللغة العربية هي لغتي الأم إلا أنه كانت تربطني بالفرنسية علاقة مختلفة، عندما كنت أقوم بتدوين الملاحظات في دفتري، كنت أفعل ذلك بشكل أساسي باللغة الفرنسية لأني كنت أعتبرها في طفولتي لغة سرية، وكان لهذا تأثير كبير عليّ.
- يجب أن يتعلم الناس إضافة إلى اللغة الأم، لغات أخرى أجنبية... إذا كان كل منا يعرف لغات أخرى غير الإنجليزية، فإننا سوف ننفتح على ثقافات عدة، ونتعرف إلى آدابها، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل هويات تتحاور في ما بينها، بعيدا عن الانغلاق الذي يؤدي إلى ما أسميه الهويات القاتلة.
- 3 أبريل 2021؛ جلسة حوارية افتراضية، جمعية جائزة الشيخ زايد للكتاب [68]
المراجع
عدلفهرس المراجع
عدل- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.25 و9
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.25 و26
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.27
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.37 و38
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.39
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.49
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.45
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.111
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.134
- ↑ 10٫0 10٫1 ليون الأفريقي (1997)، ص.167
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.202
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.208
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.211
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.218
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.245
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.261
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.263
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.283
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.300
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.338
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.341
- ↑ ليون الأفريقي (1997)، ص.342
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.7
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.10
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.15 و16
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.41
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.80
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.84
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.91
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.102
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.109
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.137
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.143
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.156
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.157
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.165
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.170
- ↑ 38٫0 38٫1 حدائق النور (1998)، ص.171
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.181
- ↑ حدائق النور (1998)، ص.232
- ↑ https://ar.qantara.de/content/myn-mlwf-lhss-blgrb-fy-kl-mkn
- ↑ "ENTRETIEN AVEC AMIN MAALOUF". مارس 2006. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "حوار مع أمين معلوف". مارس 2006. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف لـ «الشرق الأوسط»: الحضارة الغربية في انغلاق كبير وعليها أن تتغير". 7 مايو 2009. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: أشعر بأنني غريب في أي بلد أقمت والهوية مشكلتنا جميعاً ... السؤال الأصعب: لماذا عجز العرب عن استيعاب العصر؟". 9 مايو 2010. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "الكاتب أمين معلوف: "على الغرب أن يتصالح مع مبادئه في تعامله مع الآخرين"". 16 يونيو 2012. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "حوار مع أمين معلوف". يونيو 2012 2012. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "لقاء مع الكاتب أمين معلوف بعد انتخابه عضوا في الأكاديمية الفرنسية". 16 يونيو 2012. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف يروي سير أسلافه في «مقعد على السين»". 27 مارس 2016. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: نكهة دبي عالقة في ذاكرتي". 25 أبريل 2016. تمت أرشفته من الأصل في 23 يوليو 2016.
- ↑ "Amin Maalouf : Je suis né en bonne santé dans les bras d'une civilisation mourante". 24 أبريل 2019. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: ولدت معافى بين أحضان حضارة تحتضر". 10 أبريل 2021. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "Le Monde des religions n°95 mai-juin". 1 مايو 2019.
- ↑ "حوار مترجم مع أمين معلوف: يقتضي الوضع فورية الوعي بالأخطار المحدقة". يونيو 2019. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "Amin Maalouf, citoyen du monde, nous parle de l'importance de la place de la culture". 23 يونيو 2019. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "حوار مع أمين معلوف: أهمية موقع الثقافة .. ترجمة : سعيد بوخليط". 6 يوليو 2019. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "Petrodollars waren stärker als kulturelle Traditionen". 9 أغسطس 2019. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: البترودولار ساهم في تدمير التقاليد الثقافية في العالم العربي". 15 ديسمبر 2019. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "Amin Maalouf: "Debemos resucitar el comunismo huyendo de sus trampas"". 23 أكتوبر 2019. تمت أرشفته من الأصل في 5 يونيو 2022.
- ↑ "لقاء مجلة (الثقافي) الاسبانية، مع الروائي أمين معلوف". 10 نوفمبر 2019. تمت أرشفته من الأصل في 13 يونيو 2021.
- ↑ "Amin Maalouf: "No hay ninguna incompatibilidad entre las aspiraciones del mundo árabe y las del mundo occidental"". 25 أكتوبر 2019. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف الهوية المفتوحة". 1 نوفمبر 2019. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "Entrevue avec Amin Maalouf : Le naufrage des civilisations". 23 أبريل 2020. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف من عزلة كورونا: آمل أن يوقظنا هذا الاهتزاز". 9 مايو 2020. تمت أرشفته من الأصل في 11 مايو 2021.
- ↑ "Amin Maalouf : « Empêcher le Liban de mourir »". 14 أغسطس 2020. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: «أنقذوا لبنان من الموت»". 30 أغسطس 2020. تمت أرشفته من الأصل في 5 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: «غرق الحضارات» سببه تطوّرنا الذهني غير المواكب للتطور العلمي والتكنولوجي". 3 أبريل 2021. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
- ↑ "أمين معلوف: الانغلاق يؤدي إلى هويات قاتلة". 3 أبريل 2021. تمت أرشفته من الأصل في 4 يوليو 2022.
معلومات المراجع
عدل- أمين معلوف (1997). ليون الإفريقي. تمت الترجمة بواسطة عفيف دمشقية (الطبعة الثالثة). بيروت، لبنان: دار الفارابي.
- أمين معلوف (1998). حدائق النور. تمت الترجمة بواسطة عفيف دمشقية (الطبعة الرابعة). بيروت، لبنان: دار الفارابي.