جبران خليل جبران
جبران خليل جبران (6 يناير 1883، بشَرّي - 10 أبريل 1931، نيويورك) كاتب وشاعر وفنان تشكيلي لبناني أمريكي، ويعتبر أيضًا فيلسوفًا رغم أنه نفسه رفض هذا اللقب. وهو من روَّادِ النهضةِ في المنطقةِ العربية، ومن كبارِ الأدباءِ الرمزيِّين. اشتهر بكتابه «النبي»، الذي نُشر لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1923 وأصبح منذ ذلك الحين أحد أفضل الكتب مبيعًا على الإطلاق، حيث تُرجم إلى أكثر من 100 لغة.
ولد في بلدة بشري في شمال لبنان لعائلة مارونية ونشأ فقيرًا، ولم يتلق التعليم الرسمي خلال شبابه في متصرفية جبل لبنان. فهاجر صبيًا مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرس الأدب، وبدأ بالكتابة باللغتين العربية والإنجليزية. امتاز أسلوبه بالرومانسية ويعتبر من رموز ذروة وازدهار عصر نهضة الأدب العربي الحديث، وخاصة في الشعر النثري.
كان عضوًا في رابطة القلم في نيويورك، المعروفة حينها بشعراء المهجر جنبًا إلى جنب مؤلفيين لبنانيين مثل أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي.
توفي جبران في نيويورك عن عمر ناهز 48 عاماً، بسبب مرض السل وتليف الكبد، وقد تمنى جبران أن يدفن في لبنان، وتحققت أمنيته في 1932، حيث نقل رفاته إليها، ودفن هناك فيما يُعرَف الآن باسم متحف جبران.
اقتباسات
عدلكتبه
عدلالأرواح المتمردة (1908)
عدلالأرواح المتمردة مجموعة قصصية صدر لأول مرة في مدينة نيويورك عام 1908، يجمع فيه جبران أربع قصص هي: «وردة الهاني»، و«صراخ القبور»، و«مضجع العروس»، و«خليل الكافر».
- ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته، ويُهرق على قدميها عرق جبينه ودَمَ قلبه، ويضع بين كَفَّيْهَا ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانًا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته!
- وما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة، فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ويسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب الامرأة!
- إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعسًا؛ لأنها وضعت في أعماقه الميل إلى السعادة؛ لأنه بسعادة الإنسان يتمجد الله.
- أما البشر فمحرومون من هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسَنُّوا لأجسادهم ونفوسهم قانونًا واحدًا قاسيًا، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنًا ضيقًا مخيفًا، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرًا عميقًا مظلمًا، فإذا ما قام واحد من بينهم، وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمرد شرير خليق بالنفي، وساقط دنس يستحق الموت … ولكن هل يظل الإنسان عبدًا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان محدقًا بالتراب أم يحول عينيه نحو الشمس كي لا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم؟
- «وردة الهاني» [1]
- سفك الدماء محرمٌ، ولكن من حلَّله للأمير؟ سَلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟ خيانة النساء قبيحة، ولكن من صيَّر رجم الأجساد جميلًا؟
- أنقابل الشرَّ بِشَرٍّ أعظم ونقول هذه هي الشريعة، ونقاتل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس، ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هو العدل؟
- الشريعة، وما هي الشريعة؟ من رآها نازلة مع نور الشمس من أعماق السماء؟ وأي بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر، وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: «احرموا الضعفاء نور الحياة، وأفنوا الساقطين بحد السيف، ودوسوا الخطأة بأقدام من حديد.»
- «صراخ القبور» [2]
- لا يوجد في داخل الإنسان عاطفة أنقى وأعذب من تلك العاطفة الخفية التي تستفيق على حين غفلة في قلب الصبية وتملأ خلايا صدرها بالأنغام السحرية وتجعل أيامها شبيهة بأحلام الشعراء ولياليها مثل الأنبياء، ولا يوجد بين أسرار الطبيعة سر أقوى وأجمل من ذلك الميل الذي يحول سكينة نفس العذراء إلى حراك مستمر يميت بعزمه ذكرى الأيام الغابرة ويحيي بحلاوته الآمال بالأيام الآتية.
- الصبية اللبنانية تمتاز عن صبايا الأمم بقوة عواطفها ورقة إحساسها؛ لأن التربية البسيطة التي تحرم عاقلتها من النمو وتوقف مداركها عن الارتقاء تحول نفسها إلى استفسار ميول نفسها، وتشغل قلبها باستطلاع خفايا قلبها، الصبية اللبنانية مثل ينبوع يخرج من قلب الأرض بين المنخفضات فلا يجد ممرًّا ليسير به نهرًا نحو البحر فينقلب بحيرة هادئة تنعكس على وجهها أشعة القمر والنجوم.
- نفوسكم في قبضة الكاهن، وأجسادكم بين مخالب الحاكم، وقلوبكم في ظلمة اليأس والأحزان، فأي شيء في الحياة يمكنكم أن تشيروا إليه قائلين: «هذا لنا.» أتعرفون أيها المستسلمون الضعفاء من هو الكاهن الذي تهابونه وتقيمونه وصيًّا على أقدس أسرار نفوسكم؟
- هل تعتقدون بأن الروح السرمدي الذي يوحي إليكم محبة الزوجة والرأفة بالبنين والشفقة على القريب يقيم عليكم سيدًا قاسيًا يظلمكم ويستعبد أيامكم؟ هل تعتقدون بأن النواميس الأزلية التي تحبب إليكم نور الحياة تبعث إليكم بمن يحبب إليكم ظلمة الموت؟ هل تعتقدون بأن الطبيعة قد بعثت القُوى في أجسادكم لكي تعود وتخضعها أمام الضعف؟ أنتم لا تعتقدون بهذه الأشياء لأنكم إن فعلتم تكونون كافرين بالعدل الإلهي جاحدين نور الحق الذي يضيء على جميع الناس.
- إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزيد جمالًا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفيء.
- إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية فلماذا تَجزُّونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الأرض.
- إن الله قد وضع في قلوبكم بذور السعادة فكيف تنتزعونها وتطرحونها على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الأرياح.
- إن الله قد رزقكم البنين والبنات لكي تدربوهم على سبل الحق وتملأوا صدورهم بأغاني الكيان وتتركوا لهم غبطة الحياة إرثًا ثمينًا فكيف تهجعون وتخلفونهم أمواتًا بين أيدي الدهر، غرباء في أرض مولدهم، تعساء أمام وجه الشمس؟ أوليس الوالد الذي يترك ابنه الحر عبدًا يكون كالوالد الذي يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟ أما رأيتم عصافير الحقل تدرب فراخها على الطيران فكيف تعلمون صغاركم جر القيود والسلاسل؟ أما رأيتم زهور الأودية تستودع بذورها حرارة الشمس فكيف تسلمون أطفالكم إلى الظلمة الباردة.
- منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فأي متى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا والأجيال تمر بنا ساخرة فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نير ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا فإلامَ نصبر على ضحك الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير ركابُنا فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض. فإلى متى نحيا؟
- من عبودية المصريين إلى سَبْيِ بابل إلى قساوة الفرس إلى خدمة الإغريقيين إلى استبداد الروم إلى مظالم المغول إلى مطامع الإفرنج فإلى أين نحن سائرون الآن، وأي متى نبلغ جبهة العقبة؟
- من مقابض فرعون إلى مخالب نبوختنصر إلى أظافر الإسكندر إلى أسياف هيرودس إلى براثن نيرون إلى أنياب الشيطان فإلى يَدِ من نحن ذاهبون الآن وأى ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟
- بعزم سواعدنا قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتهم، وعلى ظهورنا قد نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهُم، وبقوى أجسادنا قد أقاموا الأهرام لتخليد أسمائهم، فحتى متى نبني القصور والصروح ولا نسكنُ غير الأكواخ والكهوف، ونملأ الأهرام والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث، ونحوك الحرير والصوف ولا نلبس غير المسوح والأطمار؟
- بخبثهم واحتيالهم قد فرقوا بين العشيرة والعشيرة وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبَغَّضُوا القبيلة بالقبيلة، فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة؟»
- لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلَّحوا الدرزي لمقاتلة العربي وحمَّسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة وإلامَ يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟
- أصغي أيتها الحرية واسمعينا، التفتي يا أم ساكني الأرض وانظرينا فنحن لسنا أبناء ضرَّتِك، تكلمي بلسان فرد واحد منا، فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس.
- أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا، فمن سحابة واحدة ينبثق البرق وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال، بددي بعزمك هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي كالمنجنيق قوائم العروش المرفوعة على العظام والجماجم المُصَفَّحَةِ بذهب الجزية والرشوة، المغمورة بالدماء والدموع.
- اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علمينا يا عروسة يسوع، قوي قلوبنا لنحيا أو شددي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح.
- «خليل الكافر» [3]
- وصرخ صوتًا هائلًا هو بقية الحياة في جسده: صوت خائف قد رأى خيال الموت وجهًا لوجه، صوت منازع قانط أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمي به إلى الهاوية، صوت محبة الكيان في فضاء العدم
- انتصف الليل والمرأتان جالستان تسمعان ولولة الأرياح خارجًا ومن وقت إلى آخر كانت الصبية تقف وتفتح الكوة الصغيرة وتنظر نحو الفضاء المظلم ثم تعود إلى مكانها مضطربة مرتعبة من غضب العناصر
- قربت راحيل حافة الطاس إلى شفتي الشاب وجرعته قليلًا ففتح عينيه الكبيرتين ونظر إلى منقذيه لأول مرة نظرة لطيفة محزنة قد انبعثت مع دموع الشكر ومعرفة الجميل، نظرة من شعر بملامس الحياة بعد أن كان بين مخالب الموت، نظرة الأمل بعد «. ليبارككما لله » : اليأس. ثم ألوى عنقه وخرجت هذه الكلمات من بين شفتيه المرتعشتين
- فقالت راحيل: (كثار هم الذين يعيشون حسب العاطفة الخفية الكائنة في قلوبهم. وكثار هم الذين يعتقدون بأن هذه العاطفة هي ظل الناموس الذي سَنَّهُ لله للإنسان. ولكنهم لا يفرحون قط بأيامهم بل يظلون تعساء حتى الموت)
- وأعلنت أيام نيسان لسكان تلك القريةسرائر الحب الخفية الكائنة بين روح خليل وروح مريم ابنة راحيل فتهللت وجوههم فرحًا، ورقصت قلوبهم ابتهاجًا، ولم يعودوا يخشون ذهاب الشاب الذي أيقظ قلوبهم إلى محيط أوسع وأرقى من وسطهم فطافوا يبشرون بعضُهم بعضًا بصيرورته جارًا قريبًا وصهرًا محبوبًا لكل واحد منهم.
الأجنحة المتكسرة (1912)
عدلالأجنحة المتكسرة هي قصة لجبران خليل جبران، وتعتبر من أشهر قصصه بالعربية، وتتحدث عن شاب بعمر ال18 يحب فتاة اسمها سلمى كرامة، ولكن تلك الفتاة تُخطب من شخص آخر غني يطمع في ثروة والدها فارس كرامة، وتحدث المشاكل، ويتحدث فيها جبران بالصيغة الأولى أي يجعل نفسه بطل القصة.
- أيّ فتى لا يذكر الصبيَّة الأولى التي أبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتَّاكة بحلاوتها؟ من منَّا لا يذوب حنينًا إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كُلِّيَّتَه قد انقلبت وتحولت، وأعماقه قد اتّسعت وانبسطت وتبطَّنت بانفعالات لذيذة بكل ما فيها من مرارة الكِتْمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسُّهاد؟
- ربَّ زهرة تُلقونها على ضريح منسيٍّ تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الوردة الذابلة.
- «توطئة» [4]
- يقولون إن الغباوة مهد الخلو والخلو مرقد الراحة، وقد يكون ذلك صحيحًا عند الذين يولدون أمواتًا ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب. ولكن إذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقسى من الهاوية وأمرَّ من الموت.
- الصبي الحساس الذي يشعر كثيرًا ويعرف قليلًا هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس؛ لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفيفة تحلق به في السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار، وتتركه ضائعًا خائفًا في ظلمة حالكة.
- للكآبة أيدٍ حريرية الملامس قوية الأعصاب، تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة، كما أنها أليفة كل حركة روحية.
- نفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمام، ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر، وتضم أوراقها بمرور أخيلة المساء، فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الميول، كانت الحياة أمامه كحبس ضيِّق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
- «الكآبة الخرساء» [5]
- الربيع جميل في كل مكان، ولكنه أكثر من جميل في سوريا … الربيع روح إله غير معروف تطوف في الأرض مسرعة، وعندما تبلغ سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء، مترنمة مع جداول اليهودية بأناشيد سليمان الخالدة، مرددة مع أَرْز لبنان تذكارات المجد القديم.
- بيروت في الربيع أجمل منها في ما بقي من الفصول؛ لأنها تخلو فيه من أوحال الشتاء وغبار الصيف، وتصبح بين أمطار الأول وحرارة الثاني كصبيَّة حسناء قد اغتسلت بمياه الغدير ثم جلست على ضفته تجفف جسدها بأشعة الشمس.
- إن الشيوخ يرجعون بالفكر إلى أيام شبابهم رجوع الغريب المشتاق إلى مسقط رأسه، ويميلون إلى سرد حكايات الصبا ميل الشاعر إلى تنغيم أبلغ قصائده، فهم يعيشون بالروح في زوايا الماضي الغابر؛ لأن الحاضر لا يمر بهم ولا يلتفت، والمستقبل يبدو لأعينهم متشحًا بضباب الزوال وظلمة القبر.
- «يد القضاء»، [6]
- للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام، ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم، فيرون الكيان مغمورًا بأشعة متلونة بألوان قوس قزح، ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزِّقها عواصف الاختبار، فيهبطون إلى عالم الحقيقة، وعالم الحقيقة مِرْآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
- أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعورًا صامتًا مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتًا أبديًّا.
- إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ، ولكنها لا تستطيع. هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور.
- الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لونًا وعطرًا، هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول، ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبًّا.
- «في باب الهيكل»، [7]
- إن المرأة التي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعًا بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس.
- إن الجائع السائر في الصحراء لا يأبى أكل الخبز اليابس إذا كانت السماء لا تمطره المنَّ والسلوى.
- بأية ألفاظ نقدر أن نصور وجهًا حزينًا هادئًا محجوبًا وليس محجوبًا بنقاب من الاصفرار الشفاف؟ بأية لغة نقدر أن نتكلم عن ملامح تعلن في كل دقيقة سرًّا من أسرار النفس، وتذكِّر الناظرين إليها بعالم روحي بعيد عن هذا العالم؟!
- إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما، فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرِّقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا.
- «الشعلة البيضاء» [8]
- أن الشعور العميق غير المتناهي يفقد شيئًا من خاصته المعنوية عندما يتجسَّم بالألفاظ المحدودة.
- هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابّة؟ هل هي الأصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والألسنة التي تقرب بين القلوب والعقول؟ أفلا يوجد شيء أسمى مما تلده الأفواه وأطهر مما تهتز به أوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تحمل شعاع النفس إلى النفس، وتنقل همس القلب إلى القلب؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود مقتربين من الملأ الأعلى، شاعرين بأن أجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
- إذا حجب الظلام الأشجار والرياحين عن العين، فالظلام لا يحجب الحب عن النفس.
- كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولَّد من فكر واحد أو من حاسة واحدة في داخل الإنسان. كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكرًا خفيًّا في عاقلة رجل أو عاطفة لطيفة في صدر امرأة … الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تُعبد كالآلهة كانت فكرًا خياليًّا مرتعشًا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثَلَّت العروش وخربت الممالك كانت خاطرًا يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية كانت ميلًا شعريًّا في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه؛ فِكر واحد أقام الأهرام، وعاطفة واحدة خرّبت تروادة، وخاطر واحد أوجد مجد الإسلام، وكلمة واحدة أحرقت مكتبة الإسكندرية.
- فِكر واحد يجيئك في سكينة الليل يسير بك إلى المجد أو إلى الجنون. نظرة واحدة من أطراف أجفان امرأة تجعلك أسعد الناس أو أتعسهم، كلمة واحدة تخرج من بين شفتي رجل تُصَيِّرك غنيًّا بعد الفقر أو فقيرًا بعد الغنى … كلمة واحدة لفظتها سلمى كرامة في تلك الليلة الهادئة أوقفتني بين ماضيَّ ومستقبلي وقوف سفينة بين لجة البحار وطبقات الفضاء. كلمة واحدة معنوية قد أيقظتني من سُبات الحداثة والخلوّ، وسارت بأيامي على طريق جديدة إلى مسارح الحب حيث الحياة والموت.
- لبنان عند شعراء الغرب مكان خيالي، قد اضمحلّت حقيقته بذهاب داود وسليمان والأنبياء، مثلما انحجبت جنة عدن بسقوط آدم وحواء، هو لفظة شعرية لا اسم جبل — لفظة ترمز عن عاطفة في النفس وتستحضر إلى الفكر رسوم غابات من الأَرز يفوح منها العطر والبخور، وأبراج من النحاس والرخام تتعالى بالمجد والعظمة، وأسراب من الغزلان تتهادى بين الطلول والأودية.
- تتغير الأشياء أمام أعيننا بتغيُّر عواطفنا، وهكذا نتوهم الأشياء متَّشِحة بالسحر والجمال عندما لا يكون السحر والجمال إلا في نفوسنا.
- ما أجهل الناس الذين يتوهَّمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي، وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
- بأن المحبة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت وتنمو بغير معاونة الفصول.
- إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم.
- إن دمعة واحدة تتلمع على وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيرًا في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
- إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة، أما دموع الشيوخ، فهي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق، هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة. الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة، أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة.
- «العاصفة» [9]
- كل ما يفعله الإنسان سرًّا في ظلمة الليل يظهره الإنسان علنًا في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثًا عموميًّا، والأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسّم غدًا، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
- إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدِّين به والمستدرّين قواه وأمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الإخوة في حياته. وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي، كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتصّ دماءها بأفواه عديدة.
- إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين؛ تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوسًا ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطانًا مخيفًا يعذب النفوس ويميت القلوب.
- حُبٌّ علوي لا يعرف الحسد لأنه غني، ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء، عاطفة تولِّد الشوق ولكنها لا تثيره.
” | إن الملامح التي تُبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالًا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشفّ بلورها عن لون الخمر.ا | “ |
- إن الملامح التي تُبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالًا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشفّ بلورها عن لون الخمر.
- إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة، وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد.
- إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلًا، ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطّخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنّة، ويظلّ فيه الربيع ربيعًا والخريف خريفًا إلى نهاية الدهور …
- أي بشريّ لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟ وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟
- ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقّت غضبك؟! ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور؟! هل اقترفت جرمًا لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟! أنت قوي يا رب وهي ضعيفة، فلماذا تبيدها بالأوجاع؟! أنتَ عظيم وهي تدبّ حول عرشك، فلماذا تسحقها بقدميك؟! أنتَ عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك، فلماذا تذريها على الثلوج؟! أنت جبار وهي بائسة، فلماذا تحاربها؟! أنت بصير عليم وهي تائهة عمياء، فلماذا تهلكها؟! أنت توجدها بالمحبة، فكيف بالمحبة تُفنيها؟! بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها إلى الهاوية، وهي جاهلة لا تدري أنَّى ترفعها وكيف تدفعها؟!
- في فمها تنفخ نسمة الحياة، وفي قلبها تزرع بذور الموت، على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعث الشقاء فارسًا ليصطادها، في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة، بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها، وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالات الأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة، وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب، بإرادتك تحيي ميولها، ومن ميولها تتولد عيوبها وزلاتها، بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك، وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها من جسد جميل، وبقضائك تجعل جسدها بَعْلًا للضعف والهوان.
- أنت تسقيها الحياة بكأس الموت والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها، وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل، ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب، قد فتحت عيني بالمحبة، وبالمحبة أعميتني، أنت قبَّلتني بشفتيك، وبيدك القوية صفعتني، أنت زرعت في قلبي وردة بيضاء، وحول هذه الوردة أنبتَّ الأشواك والحسَك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه، وبجسد رجل لا أعرفه قيدت أيامي؛ فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعِفْني لأبقى أمينة وطاهرة حتى الموت … لتكن مشيئتك يا رب، ليكن اسمك مباركًا إلى النهاية.
- أشفق يا رب وشدِّد جميع الأجنحة المتكسرة.
- «بحيرة النار» [10]
- إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائمًا، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.
- إن المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلًا، ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة. كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار، فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها، فصارت قبيحة بتفنُّنها سطحيّة بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها. فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟
- أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنَّة في البشر، والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذا كانت المرأة قد ارْتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر؛ فلأن العقبات التي تُبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب.
- إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم، ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليمّ، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.
- أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجِّعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأُمَّة المتعذّبة بين حكامها وكهانها؟ أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبيّة الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواصف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلًا إذا لم يكن زيته شحيحًا؟
- إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.
- إن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة. فالفراشة التي تظلّ مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نَفَقِهِ المظلم. والنواة التي لا تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شق الأرض ولن تفرح بجمال نيسان.
- إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة «الأم»، وأجمل مناداة هي: يا أمي، كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدرًا يسند إليه رأسه ويدًا تباركه وعينًا تحرسه …
- كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها وتحتضنها بنورها، ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنوّمها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلِدُها وتُرضعها ثم تَفطمها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبزور الحية. وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة.
- لا تدعوا طبيبًا ليطيل بمساحيقه ساعات سجني، لأن أيام العبودية قد مضت، فطلبت روحي حرية الفضاء، ولا تدعوا كاهنًا إلى جانب فراشي، لأن تعازيمه لا تكفر عن ذنوبي إن كنت خاطئًا، ولا تسرع بي إلى الجنة إن كنت بارًّا. إن إرادة البشر لا تغير مشيئة الله، كما أن المنجّمين لا يحولون مسير النجوم.
- «أمام عرش الموت»، [11]
- إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبّآت صدرها، لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات، فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يضعونها تحت مكبرات الكره، فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام.
- إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة، ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن.
- إن الجامعة البشرية قد استسلمت سبعين قرنًا إلى الشرائع الفاسدة، فلم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلوية الأولية الخالدة. وقد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة، فلم تعد تستطيع أن تحدق إلى نور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم، فإذا ما ظهر بينهم فرد خالٍ منها ظنوه ناقصًا محرومًا من الكمالات الروحية.
- إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جبانًا.
- النفس التي شاهدت وجه الموت لا تذعرها وجوه اللصوص، والجندي الذي رأى السيوف محتبكة فوق رأسه وسواقي الدماء تجري تحت قدميه لا يحفل بالحجارة التي يرشقه بها صبيان الأَزِقَّة.
- «بين عشتروت والمسيح»، [12]
- إن من لا تلسعه أفاعي الأيام وتنهشه ذئاب الليالي يظل مغرورًا بالأيام والليالي.
- هل وهبنا الله نسمة الحياة لنضعها تحت أقدام الموت؟ وأعطانا الحرية لنجعلها ظلًّا للاستعباد؟ إن من يخمد نار نفسه بيده يكون كافرًا بالسماء التي أوقدتها. ومن يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف البطل على الحق وشريك السفّاحين بقتل الأبرياء.
- أمامنا الحياة وما في الحياة من الحرية وما في الحرية من الغبطة والسعادة، فلماذا لا نخلع النير الثقيل عن عاتقينا ونكسر القيود الموثقة بأرجلنا، ونسير إلى حيث الراحة والطمأنينة؟
- إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب غير ذاتها. المحبة التي تجيء بين يقظة الشباب وغفلته تستكفي باللقاء وتقنع بالوصل وتنمو بالقبل والعناق. أما المحبة التي تولد في أحضان اللانهاية وتهبط مع أسرار الليل، فلا تقنع بغير الأبدية، ولا تستكفي بغير الخلود، ولا تقف متهيِّبة أمام شيء سوى الألوهية …
- أن الإنسان وإن وُلد حرًّا يظل عبدًا لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سرًّا علويًّا هو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى ميول اليوم.
- «الأجنحة المتكسرة»، [13]
- والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان؛ لأن الأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء، فيطلبون النسل ليظلُّوا خالدين على الأرض.
- إن الرجل المادي ينظر إلى زوجته العاقر بالعين التي يرى بها الانتحار البطيء، فيمقتها ويهجرها ويطلب حتفها كأنها عدوّ غدار يريد الفتك به.
- «المنقذ» [14]
- إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمرا، وسلمى كرامة كانت في ظل الحياة . إن البلبل لا يحوك عشا في القفص كيلا يورث العبودية لفراخه، وسلمى ً فلم تثمر أطفالا ٍّ كرامة كانت سجينة الشقاء، فلم تقسم السماء حياتها إلى أسريين. إن أزاهر الأودية هي أطفال يلدها انعطاف الشمس وشغف الطبيعة، وأطفال البشر أزاهر يلدها الحب والحنو، فسلمى كرامة لم تشعر قط بأنفاس الحنو وملامس الانعطاف في ذلك املنزل الفخم القائم على شاطئ البحر في رأس بريوت، ولكنها كانت تصلي في سكينة الليالي ضارعة أمام السماء لتبعث إليها بطفل يجفِّف بأصابعه الوردية دموعها، ويزيل بنور عينيه خيال املوت عن قلبها.
- حياة قصرية ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار، فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلام ثم تجففها ملامس النور.
- وُلد مع الفجر، ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمرّ بين مجيء الفجر وطلوع الشمس هي أقصر من الدهر الذي يمر بين ظهور الأمم وتواريها؟
- حياة قصرية ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار، فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلام ثم تجففها ملامس النور
- كلمة لفظتها النواميس الأزلية، ثم ندمت عليها وأعادتها إلى سكينة الأبدية ... ْ لؤلؤة قذفها املد إلى الشاطئ ثم جرفها الجزر إلى الأعماق ... زنبقة ما انبثقت من أكمام الحياة حتى انسحقت تحت أقدام املوت.
دمعة وابتسامة (1914)
عدلدمعة وابتسامة هو كتاب لجبران خليل جبران، عبارة عن مجموعة من المقالات والقصص الوعظية والرمزية، وبعض القصائد النثرية، كتبها جبران لجريدة «المهاجر» ما بين 1903 و1908، وجُمعت ونُشرت لأوّل مرّة في كتاب واحد عام 1914. بأسلوبه السهل، ولغته المتحرّرة، والإيقاع الموسيقي الذي لا يغيب عن نصٍّ من نصوصه، يبحث جبران في مواضيع المجتمع، والطبيعة، والحبّ والوجود.
- أنا لا أبدِّل أحزان قلبي بأفراح الناس، ولا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي وتصير ضحكًا، أتمنَّى أن تبقى حياتي دمعة وابتسامة، دمعة تطهر قلبي وتفهمني أسرار الحياة وغوامضها، وابتسامة تدنيني من أبناء بجدتي وتكون رمز تمجيدي الآلهة، دمعة أشارك بها منسحقي القلب، وابتسامة تكون عنوان فرحي بوجودي.
- أريد أن أموت شوقًا ولا أحيا مللًا، أريد أن تكون في أعماق نفسي مجاعة للحب والجمال؛ لأني نظرت فرأيت المستكفئين أشقى الناس وأقربهم من المادة، وأصغيت فسمعت تنهدات المشتاق المتمني أعذب من رنات المثاني والمثالث.
- «توطئة» [15]
- الربيع: هلمي يا محبوبتي نمشي بين الطلول، فقد ذابت الثلوج وهبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات، سِيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الرُّبى ونتأمل في تموُّجات اخضِرَارِ السهول حولها.
- الصيف: هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة، تعالي قبل أن تسبقنا الطيور فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا، هلُمِّي نجنِ ثمار الأرض مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر كما ملأت الحياة أهراء عواطفنا.
- الخريف: لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي ونعصر العنب ونوعيه في الأجران مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة ونستقطر الأزهار ونستعيض عن العين بالأثر.
- الشتاء: اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا، اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية، حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوُّه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يُحزن نفسي، والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي، اسقي السراج زيتًا يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك لأرى ما كتبته الليالي على وجهك، إيتي بجرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
- «حياة الحب» [16]
- تعالَ يا موت وأنقذني، فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن، هلم وخلصني من أيام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالي مكانه، خلصني يا موت فالأبدية أجدر ببقاء المحبِّين من هذا العالم، هناك أنتظر حبيبتي، وهناك أجتمع بها.
- «حكاية» [17]
- تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبتُ من جَرِّهَا، تعالَي إلي يا أيتها المنية الحارة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبًا عنهم لأني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشر، أسرعي نحوي فقد تخلَّى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان لأني لم أكن طامعًا بالمال نظيره، ولا باستخدام من هو أضعف مني، تعالَي إلي أيتها المنية العذبة وخذيني فأولاد بَجْدَتِي لا يحتاجوني، ضميني إلى صدرك المملوء محبة، قبِّلي شفتي التي لم تذق طعم قبلة الوالدة ولا لمست وجنة الأخت ولا لثمت ثغر المحبوبة، أسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية.
- «موت الشاعر حياته» [18]
- أصغوا لأنغام الطيور، وحفيف الأغصان، وخرير الجدول، إن الجمال قسمة السامعين، انظروا وداعة الطفل، وظُرْفَ الشاب، وقُوَّةَ الكهل، وحكمة الشيخ، إن الجمال فتنة الناظرين. تشببوا بنرجس العيون، وورد الخدود، وشقيق الفم؛ إن الجمال يتمجد بالمتشببين، سبِّحُوا لغصن القد، وليل الشعر، وعاج العنق؛ إن الجمال يُسَرُّ بالمسبحين. كَرِّسُوا الجسد هيكلًا للحسن، وقدسوا القلب مذبحًا للحب؛ إن الجمال يجازي المتعبدين. تهللوا يا أيها الذين أُنْزِلَتْ عليهم آيات الجمال، وافرحوا إذ لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
- «الجمال» [19]
- حقيقة الحياة حياة، حياة لم يكن ابتداؤها في الرحم ولن يكون منتهاها في اللحد، وما هذه السنوات إلا لحظة من حياة أزلية أبدية، هذا العمر الدنيوي مع كل ما فيه هو حلم بجانب اليقظة التي ندعوها الموت المخيف، حلم ولكن ما رأيناه وفعلناه فيه يبقى ببقاء الله.
- هناك في العالم الآتي سنرى جميع تموجات شواعرنا واهتزازات قلوبنا، وهناك ندرك كُنْهَ ألوهيتنا التي نحتقرها الآن مدفوعين بعوامل القنوط، الضلال الذي ندعوه اليوم ضعفًا سيظهر في الغد كحلقة كيانها واجب لتكملة سلسلة حياة ابن آدم.
- «الحروف النارية» [20]
- مثلما تكتسب الزهرة عطرها وحياتها من التراب، كذلك تستخلص النفس من ضعف المادة وخطاها قوة وحكمة.
- لا تحفظ الأبدية إلا المحبة لأنها مثلها.
- «بين الخرائب» [21]
- أنت يا نفس تفرحين بالآخرة قبل مجيء الآخرة، وهذا الجسد يشقى بالحياة وهو في الحياة.
- أنت يا نفس غنية بحكمتك وهذا الجسد فقير بسليقته، فلا أنت تتساهلين ولا هو يتبع، وهذا أقصى الشقاء.
- «رحماك يا نفس رحماك» [22]
- الطبيعة تريد أن تَعِظَ الإنسان مُظْهِرَةً عظمتها تجاه صغره، وقوتها بجانب ضعفه، لا تخف يا ولدي فمن وراء الثلوج المتساقطة والغيوم المتلبدة والأرياح العاصفة روح قدُّوس كلي عالم بما تحتاجه الحقول والآكام، من وراء كل شيء كوة ناظرة إلى حقارة الإنسان بعين الشفقة والرحمة، لا تجزع يا فلذة كبدي فالطبيعة التي ابتسمت في الربيع وضحكت في الصيف وتأوَّهت في الخريف تريد أن تبكيني الآن، ومن دموعها الباردة تستقي الحياة الرابضة تحت أطباق الثرى.
- «الأرملة وابنُها» [23]
- ما أخذت منك يا سوريا إلا بعض عطاياي، وما كنت ناهبًا قط بل مستعيرًا أرد، ووفيًّا أرجع، واعلمي أن لأخواتك الأمم نصيبًا باستخدام مجدٍ كان عبدك، وحقًّا بلبس رداء كان لك، أنا والعدل أقنومان لذات واحدة، فلا يجمل بي سوى إعطاء أخواتك ما أعطيتك، ولست قادرًا على تسويتكن في محبتي لأن المحبة لا تنقسم إلا على السواء، لك يا سوريا أسوة بجاراتك مصر وفارس واليونان إذ لكل منهن قطيع يشابه قطيعك، ومرعى نظير مرعاك. إن ما تدعينه انحطاطًا يا سوريا أدعوه نومًا واجبًا يعقبه النشاط والعمل، فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلَّا بالموت، والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق.
- «الدهر والأمة» [24]
- وبعد سكينة مازجتها الأحلام اللطيفة سألتها: «ما هذا الجمال؟ فقد تباين الناس بتعريفه ومعرفته مثلما اختلفوا بتمجيده ومحبته». قالت: «هو ما كان بنفسك جاذب إليه، هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ، هو ما شعرت عند ملقاه بأيادٍ ممدودة من أعماقك لضمه إلى أعماقك، هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة، هو ألفة بين الحزن والفرح، هو ما تراه محجوبًا وتعرفه مجهولًا وتسمعه صامتًا، هو قوة تبتدئ في قدس أقداس ذاتك وتنتهي في ما وراء تخيلاتك».
- «أمام عرش الجمال» [25]
- أنت تريد أيها الْبَشَرِي أن ترى هذا العالم بعين إله، وتريد أن تفقه مكنونات العالم الآتي بفكرة بشرية وهذا منتهى الحماقة، اذهب إلى الْبَرِّيَّةِ تجد النحلة حائمة حول الزهور، والنسر ينقضُّ على الفريسة، ادخل إلى بيت جارك ترى الطفل مدهوشًا بأشعة النار، والوالدة مشغولة بأعمال منزلها، كن أنت كالنحلة، ولا تصرِف أيام الربيع ناظرًا أعمال النسر، كن كالطفل وافرح بأشعة النار ودع والدتك وشأنها، كل ما تراه كان ويكون من أجلك، الكتب الكثيرة والرسوم الغربية والأفكار الجميلة هي أشباح نفوس الذين تقدَّمُوك، الكلام الذي تحوكه هو الواصل بينك وبين إخوانك البشر، النتائج المحزنة المفرحة هي البذور التي ألقاها الماضي في حقل النفس وسوف يستغلها المستقبل.
- «زيارة الحكمة» [26]
- تمر الليالي ونحن غافلون، وتصافحنا الأيام ونحن خائفون من الليالي والأيام، نقترب من التراب والآلهة تنتمي إلينا، ونمر على خبز الحياة والمجاعة تتغذى من قوانا، فما أحب الحياة إلينا وما أبعدنا عن الحياة.
- «بين الحقيقة والخيال» [27]
- يا من وُلِدْتَ على مهد الشقاء، ورُبِّيتَ في أحضان الذل، وشببت في منازل الاستبداد، أنت الذي تأكل خبزك اليابس بالتنهد، وتشرب ماءك العكر ممزوجًا بالدموع والعبرات.
يا أيها الجندي المحكوم عليه من شرائع البشر الظالمة بأن يترك رفيقته وصغاره ومحبيه، ويذهب إلى ساحة الموت من أجل طمع يدعونه الواجب.
ويا أيها الشاعر الذي يعيش غريبًا في وطنه ومجهولًا بين معارفه، ويرضى من العيش بمضغة ومن الحطام بالحبر والورق.
ويا أيها السجين المطروح في الظلمة من أجل ذنب صغير جسَّمه غي الذين يقابلون الشر بالشر، واستغربته عاقلة الألى يرومون الإصلاح بواسطة الفساد.
وأنتِ أيتها المسكينة التي وهبها الله جمالًا رآه فتى العصر فاتبعك وغرك وتغلب على فقرك بالذهب، فاستسلمتِ له وغادرك فريسة ترتعد بين مخالب الذل والتعاسة.
أنتم يا أحبابي الضعفاء شهداء شرائع الإنسان، أنتم تعساء وتعاستكم نتيجة بغي القوي وجور الحاكم وظلم الغني وأنانية عبد الشهوات. - لا تقنطوا، فمن مظالم هذا العالم، من وراء المادة من وراء الغيوم، من وراء الأثير، من وراء كل شيء، قوة هي كل عدل وكل شفقة وكل حنو وكل محبة.
- سوف تمزق الحقيقة غشاء الدمع الحاجب ابتساماتكم.أنا أقبلكم يا إخوتي وأحتقر مضطهديكم.
- «يا خليلي الفقير» [28]
- ولما فَصَلْتُ تصوراتي بيني وبين البشريات، وأراحت تخيلاتي برقع المادة عن ذاتي المعنوية، شعرت بنور روحي يقربني من الطبيعة ويبين لي غوامض أسرارها ويفهمني لغة مبتدعاتها.
- طلعت الشمس من وراء الجبل وتوَّجت رءوس الأشجار بأكاليل ذهبية، وأنا أسأل ذاتي لماذا يهدم الإنسان ما تبنيه الطبيعة؟!
- «مناحة في الحقل» [29]
- قد كثر المتفرِّجون المستحسنون وقلَّ من تأمل وعقل.
- «بين الكوخ والقصر» [30]
- الشعر يا قوم روح مقدسة متجسمة من ابتسامة تحيي القلب أو تنهدة تسرق من العين مدامعها، أشباح مسكنها النفس وغذاؤها القلب ومشربها العواطف، وإن جاء الشعر على غير هذه الصور فهو كمسيح كَذَّابٍ نَبْذُهُ أَوْقَى.
- وأنتم أيها الشعراء الحقيقيون سامحونا، فنحن من العالم الجديد نركض وراء الماديات، فالشعر عندنا صار مادة تتناقلها الأيدي ولا تدري بها النفوس.
- «شعراء المهجر» [31]
- من وراء المستقبل رأيت الجموع ساجدة على صدر الطبيعة متجهة نحو المشرق، منتظرة فيض نور الصباح: صباح الحقيقة.
- من وراء جدران الحاضر، على مرسح الأجيال الآتية رأيت الجمال عروسًا والنفس عروسة، والحياة كلها ليلة القدر.
- «نظرة إلى الآتي» [32]
- دعني يا لائمي ووحدتي، أستحلفك بحب يضم نفسك بجمال الرفيقة، ويوثق قلبك بحنو الأم، ويربط فؤادك بعواطف الابن، أن تتركني وحالي.
- خلِّنِي وشأني وأحلامي واصبر إلى الغد، فالغد يقضي علي بما يشاء.
- أعتقني من حكاية المال وقصص المجد؛ لأن نفسي غنية باكتفائها ومشغولة بمجد الآلهة.
- أعتقني من مآتي السياسة وأخبار السلطة؛ لأن الأرض كلها وطني، وجميع البشر مواطني.
- «يا لائمي» [33]
” | أول نظرة.. هي أول رنَّة سحرية على أول وتر من قيثارة القلب البشري. أول قبلة..هي كلمة تقولها الشفاه الأربع معلنة صيرورة القلب عرشًا، والحب مليكًا، والوفاء تاجًا...القران هو اتحاد ألوهيتين على إيجاد ألوهية ثالثة على الأرض، هو تكاتف اثنين قويين بحبهما لمقاومة دهر ضعيف ببغضه. |
“ |
~ الرفيقة |
- أول نظرة؛هي الدقيقة الفاصلة بين نشوة الحياة ويقظتها، هي الشعلة الأولى التي تنير خلايا النفس، هي أول رنَّة سحرية على أول وتر من قيثارة القلب البشري، هي آونة قصيرة تعيد على مسمع النفس أخبار الأيام الغابرة، وتكشف لبصرها أعمال الليالي، وتبين لبصيرتها أعمال الوجدان في هذا العالم، وتتيح سر الخلود في العالم الآتي.
- أول قبلة؛هي الرشفة الأولى من كأس ملأتها الآلهة من كوثر الحب، هي الحد بين شك يراود القلب فيحزنه ويقين فيغبطه، هي مطلع قصيدة الحياة الروحية والفصل الأول من رواية الإنسان المعنوي، هي عروة توثق غرابة الماضي ببهاء الآتي وتجمع بين سكينة الشواعر وأغانيها، هي كلمة تقولها الشفاه الأربع معلنة صيرورة القلب عرشًا، والحب مليكًا، والوفاء تاجًا.
- القران؛ها هنا يبتدئ الحب أن ينظم نثر الحياة وينشئ من معانى العمر سُوَرًا ترتلها الأيام وتنغمها الليالي، ها هنا يزيح الشوق ستائر الأشكال عن معميات السنين الماضية، ويؤلِّف من نتف اللذات سعادة لا يفوقها غير سعادة النفس عندما تعانق ربها، القران هو اتحاد ألوهيتين على إيجاد ألوهية ثالثة على الأرض، هو تكاتف اثنين قويين بحبهما لمقاومة دهر ضعيف ببغضه.
- «الرفيقة» [35]
- واقترب قلبي من الحكمة ابنة المحبة والجمال وقال: «أعطني حكمة أحملها إلى البشر» فأجابت: «قل هي السعاة تبتدئ في قدس أقداس النفس ولا تأتي من الخارج».
- «بيت السعادة» [36]
- «إن حياة الأمم يا حبيبتي مثل حياة الأفراد، حياة يؤاخيها الأمل، ويقارنها الخوف، وتحف بها الأماني، ويرمقها القنوط».
- وتعانق الحبيبان وشربا من كئوس الْقُبَلِ رحيقًا عطرًا، فمرت أجواق الأرواح منشدة: قدوس قدوس قدوس! المحبة مجدها ملء السماء والأرض.
- «اللقاء» [37]
- على أنني وجدت بين هذه النكبات المخيفة والرزايا الهائلة، ألوهية الإنسان واقفة كالجبار تسخر بحماقة الأرض وغضب العناصر، ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرنسيسكو، ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي.
- «القوة العمياء» [38]
- ولما حلَّق الموت في الجو نظر نحو العالم ونفخ في الهواء هذه الكلمات: «ولن يرجع إلى الأبدية إلا من جاء من الأبدية».
- «منيَّتان» [39]
- ودقيقة تتراوح بين تأثيرات الجمال وأحلام الحب لهي أسمى وأثمن من جبل ملأه المجد الذي يمنحه الضعيف المسكين للقوي الطامع.
- وهذه هي الحياة، تمثلها الليالي على ملعب الدهر نظير مأساة، وتنشدها الأيام كأغنية، وفي النهاية تحفظها الأبدية كجوهرة.
- «على ملعب الدهر» [40]
- لو علمت يا خليلي الفقير أن الفاقة التي تقضي عليك بالشقاء هي هي التي توحي إليك معرفة العدل وتبثك إدراك كُنْهِ الحياة، لرضيت بقسمة الله، قلت معرفة العدل لأن الغني مشغول عن تلك المعرفة بخزائنه، وقلت كنه الحياة لأن القوي منصرف عنها إلى المجد. فافرح إذن بالعدل لأنك لسانه، وبالحياة لأنك كتابها، وابتهج فأنت مصدر فضيلة عاضديك، وعاضد فضيلة الآخرين بيدك.
- إن الساعة التي تصرفها أيها الفقير، مع رفيقتك وصغارك بعد مجيئك من الحقل، لهي رمز العائلة البشرية المستقبلة، هي عنوان سعادة الأجيال الآتية، والحياة التي يصرفها المثري بين الخزائن لهي حياة دنية تحاكي حياة الدود في القبور، هي رمز الخوف.
- سوف تتعلم الأجيال الآتية المساواة من الفقر، والمحبة من الأحزان.
- «خليلي» [41]
- «سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب، وأنت نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في أن واحد، سامحيني يا حبيبتي».
- «حديث الحب» [42]
- ...أنا يا ابن آدم حيوان ضعيف، ولكني وجدت نسبة كائنة بيني وبين الكثيرين من إخوانك البشر، الذين إذا ما ضعفت قواهم قَلَّ رزقهم وساء حالهم، أنا مثل جنود يحاربون عن الوطن في شبيبتهم، ويستثمرون الأرض في كهولتهم، حتى إذا ما جاء شتاء الحياة وقَلَّ نفعهم، أبعدوهم ونسوهم. أنا مثل امرأة تجملت صبيَّة لتفريج قلب الشبيبة، وسهرت زوجة في الليالي لتربية الأطفال، وتعبت امرأة لإيجاد رجال المستقبل، ولكن لما شاخت وعجزت أصبحت نسيًا منسيًّا، وأمرًا مكروها، آه ما أظلمك يا ابن آدم وما أقساك!».
كانت نظرات ذلك الحيوان تتكلم، وقلبي يفهم، ونفسي تتراوح بين شفقتي عليه وتصوراتي بأبناء جلدتي، ولما أغمض عينيه لم أشأ إزعاجه فذهبت.- «الحيوان الأبكم» [43]
- حلقة توصل بين هذا العالم والآتي، منهل عذب تستقي منه النفوس العاطشة، شجرة مغروسة على ضفة نهر الجمال ذات ثمار يانعة تطلبها القلوب الجائعة، بلبل يتنقل على أغصان الكلام وينشد أنغامًا تملأ خلايا الجوارح لطفًا ورقة، غيمة بيضاء تظهر خط الشفق ثم تتعاظم وتتصاعد وتملأ وجه السماء وتنسكب لتروي أزهار حقل الحياة، ملك بعثته الآلهة ليعلم الناس الإلهيات، نور ساطع لا تغلبه ظلمة ولا يخفيه مكيال ملأته زيتًا عشتروت إلهة الحب، وأشعله أبولون إله الموسيقى.
- «الشاعر» [44]
- قد أحببت الموت مرات عديدة، فدعوته بأسماء عذبة أتشبَّب به سرًّا وعلنًا، ولئن لم أرسل الموت ولا نقضت له عهدًا فإنني صرت أحب الحياة أيضًا، فالموت والحياة قد تساويا عندي بالجمال، وتضارعًا باللذة، وتشاركا بإنماء شوقي وحنيني، وتساهما محبتي وانعطافي.
- «يوم مولدي» [45]
- تَمُرِّينَ آنًا فرحة مترنحة، وآونةً متأوهة نادبة، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك، فإنك بحر من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتها وهي ساكنة.
- «أيتها الريح» [46]
- دعوني أنم فقد سكرت نفسي بالمحبة، دعوني أرقد فقد شبعت روحي من الأيام والليالي، أشعلوا الشموع وأوقدوا المباخر حول مضجعي، وانثروا أوراق الورد والنرجس على جسدي، وعفِّرُوا بالمسك المسحوق شعري، وأهرقوا الطيوب على قدمي.
- اخلعوا نسيج الكتان عن جسدي وكفنوني بأوراق الفل والزنبق، انتشلوا بقاياي من تابوتي العاج ومددوها على وسائد من زهر البرتقال والليمون، لا تندبوني يا بني أمي بل أنشدوا أغنية الشباب والغبطة، لا تذرفي الدموع يا ابنة الحقول بل ترنمي بموشحات أيام الحصاد والعصير، لا تغمروا صدري بالتأوُّه والتنهيد بل ارسموا عليه بأصابعكم رمز المحبة ووسم الفرح.
- «جمال الموت» [47]
- من يجمع بين قواصف البحر وتغريدة البلبل، ويقرن العواصف بتنهدة الطفل، أي بَشَرِيٍّ ينشد أغنية الآلهة؟
- «أغاني — أغنية» [48]
- أنا والشاطئ عاشقان، يرقبهما الهوى ويفصلهما الهواء، أجيء من وراء الشفق الأزرق كيما أمزج فضة زبدي بذهب ماله، وأبرد حرارة قلبه برضابي، عند الفجر أتلو شرع الغرام على مسامع حبيبي فيضمني إلى صدره، وفي المساء أترنم بصلاة الشوق فيقبلني، أنا لَجُوجٌ جَزُوعٌ وحبيبي حليف صبر وأليف تجلُّد.
- «أغنية الموج» [49]
- أنا خيوط فضية تطرحني الآلهة من الأعالي فتأخذني الطبيعة وتنمق بي الأودية، أنا لآلئ جميلة نثرت من تاج عشتروت فسرقتني ابنة الصباح ورصعت بي الحقول، أنا أبكي فتبتسم الطلول، وأتضع فترتفع الأزهار، الغيمة والحقل عاشقان وأنا بينهما رسول مسعف أنهمل فأبرد غليل هذا وأشفي علة تلك.
- «أغنية المطر» [50]
- أنا دليل الحب، أنا خمرة النفس، أنا مأكل القلب، أنا وردة أفتح قلبي عند فتوة النهار، فتأخذني الصبية وتقلبني وتضعني على صدرها، أنا بيت السعادة، أنا مصدر الفرح، أنا مبدأ الراحة، أنا ابتسامة لطيفة على شفتي غادة، يراني الشاب فينسى أتعابه، وتصير حياته مسرح أحلام لذيذة.
- «أغنية الجمال» [51]
- الإنسان حبيبي وأنا حبيبته، أشتاق إليه ويهيم بي، ولكن أوَّاه! لي في محبته شريكة تشقيني وتعذبه، وضرة طاغية تدعى المادة تتبعنا حيث نذهب، وتفرقنا كالرقيب.
- «أغنية السعادة» [52]
- أنا كلمة تقولها الطبيعة ثم تستردها وتخفيها طي قلبها ثم تقولها، أنا نجم هبط من الخيمة الزرقاء على بساط أخضر، أنا ابنة العناصر التي حبل بها الشتاء وتمخَّض بها الربيع ورباها الصيف ونومها الخريف، أنا هدية المحبين، أنا إكليل العرس، أنا آخر عطية من حي إلى ميت.
- «أنشودة الزهرة» [53]
- أنا كنت منذ الأزل، وهأنذا، وسأكون إلى آخر الدهر وليس لكياني انقضاء، سبحت في فضاء اللانهاية وطرت في عالم الخيال واقتربت من دائرة النور الأعلى، وها أنا الآن سجين المادة.
- «نشيد الإنسان» [54]
- القوة تزرع في أعماق قلبي، وأنا أحصد وأجمع السنابل وأعطيها أغمارًا للجائعين، الروح يحيي هذه الجفنة وأنا أعصر عناقيدها وأسقيها للظامئين، السماء تملأ هذا السراج زيتًا وأنا أنيره وأضعه في نافذة بيتي من أجل العابرين في ظلمة الليل
- «صوت الشاعر» [55]
السابق (1920)
عدل«السابق» هو عملٌ أدبي فلسفي كتبه جبران بالإنجليزية ونشرت لأول مرة سنة 1920. نقله بشير أنطونيوس إلى العربية في العام نفسه، يتألف من أربعة وعشرين نصًّا نثريًّا منفصلًا، تتنوع بين الحكايات والقصائد النثرية والفقرات الأدبية، في إطار فلسف وبِلُغة متميزة.[56]
- أنت سابق نفسك يا صاح، وما الأبراج التي أقمتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة، وهذه الذات في حينها ستكون أساسًا لغيرها.
- منذ البدء ونحن سابقو نفوسِنا، وسنبقى سابقي نفوسنا إلى الأبد، وليس ما حشدنا ونحشدُ في حياتنا سوى بذور نُعدُّها لحقول لم تُفلَح بعد.
- نحن الحقول ونحن الزارعون، نحن الأثمار ونحن المستثمرون.
- أنت سابق نفسك [57]
- يقولون إن ابن آوَى يشرب من الجدول الواحد الذي يشرب منه الأسد، ويقولون إن النسر والشوحة ينقدان الجيفة الواحدة وهما متفقان متسالمان. فيا أيتها المحبة العادلة، ويا من كَبَحْتِ جِماحَ رغائبي بيدِك الفقيرة، وحوَّلتِ مجاعتي وعطشي إلى إباءٍ وشَمَم، لا تَأْذني للقويِّ الْعَزُومِ فيَّ أنْ يأكلَ الخبز، أو يشربَ الخمر، اللذين يَستهويان ذاتي الضعيفة.
- المحبة [58]
- دخل رجلٌ في ليلة ظلماء إلى حديقة جاره؛ فسرق أكبر بِطِّيخَة وصلت إليها يدُه وحملها وجاء بها إلى بيته. وعندما كسرها وجد أنها عَجْراءُ لم تبلغ بعدُ نُمُوَّها؛ فتحرك ضميرُه في داخله وأوسعه تأنيبًا؛ فنَدِمَ على أنه سرق البِطِّيخة …
- التوبة [59]
- إن وراء وحدتي وحدة أبعد وأقصى.
وما انفرادي للمعتزل فيها سوى ساحة تغصُّ بالمزدحمين،
وما سكوني للساكنين فيها سوى جلبةٍ وضجيج. - إنني حَدَثٌ مضطرب هائم بعد، فكيف أبلغ تلك الوحدة القاصية؟
إن ألحان ذلك الوادي تتموَّج في أذنيَّ،
وظلاله السوداء تحجب الطريق عن عينيَّ،
فكيف أسير إلى تلك الوحدة العلوية؟ - إن وراء هذه الأودية والتلال غابة حب وافتتان،
وما سكوني لمن فيها سوى عاصفة هوجاء صماء،
وما افتتاني لعاشقيها سوى انخداع وغرور.- وراء وحدتي [60]
- إنكم تستطيعون أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس في آذانكم،
ولكنكم تُصِمُّون آذانَكم عندما تَصِيح المحبةُ مهلِّلة بأعلى صوتها.- اليقظة الأخيرة [61]
العواصف (1920)
عدلعن الحياة والموت والحب، بمنطقيةٍ فلسفية مُزْدانةً بديباجة أدبية.[62]
- قلت: «اسمي عبد الله وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي فلن أُبْدِلَهُ باسم آخر».
فقال: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه، وأجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات». - قلت: «أنظم الشعر وأنثره ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس».
فقال: «هذه مهنة عتيقة مهجورة لا تنفع الناس ولا تضرهم». - فقال: «أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء، وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا متطرحين فوق الثرى، ورائحة النتن تنبعث منهم».
- قلت: «أؤمن بالله، وَأُكَرِّمُ أنبياءه، وأحب الفضيلة، ولي رجاء بالآخرة».
فقال: «هذه ألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة، ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك، أما الحقيقة المجردة؛ فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك، ولا تُكْرِم سواها، ولا تهوى غير أميالها، ولا رجاء لك إلا بخلودها، منذ البدء والإنسان يعبد نفسه؛ ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله، وأمانيه فتارة يدعوها البعل، وطورًا المشترى، وأخرى الله».- «حفَّار القبور» [63]
- إنما الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مُكْتَنَفَةً بالذل، والهوان، ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع.
- اتبعت الأجيال من ضفاف الكنج، إلى شاطئ الفرات، إلى مصب النيل، إلى جبل سينا إلى ساحات أثينا، إلى كنائس رومية، إلى أزقة القسطنطينية، إلى بنايات لندن، فرأيت العبودية تسير بكل مكان في موكب العظمة، والجلال، والناس ينحرون الفتيان والعذارى على مذابحها، ويدعونها إلهًا، ثم يسكبون الخمور والطيوب على قدميها، ويدعونها ملكًا، ثم يحرقون البخور أمام تماثيلها ويدعونها نبيًا، ثم يخرون ساجدين لديها ويدعونها شريعة، ثم يتحاربون ويتقاتلون من أجلها ويدعونها وطنية، ثم يستسلمون إلى مشيئتها ويدعونها ظل الله على الأرض، ثم يحرقون منازلهم ويهدمون مبانيهم بإرادتها، ويدعونها إخاء ومساواة، ثم يَجِدُّونَ ويجاهدون في سبيلها، ويدعونها مالًا وتجارة … فهي ذات أسماء عديدة، وحقيقة واحدة، ومظاهر كثيرة لجوهر واحد، بل هي علة أزلية أبدية تجيء بأعراض متباينة، وقروح مختلفة يتوارثها الأبناء عن الآباء مثلما يتوارثون نسمة الحياة، وتلقي بذورَها العصورُ في تربة العصور، مثلما تستغل الفصول ما تزرعه الفصول.
- وأغرب ما لقيت من أنواع العبوديات، وأشكالها:
العبودية العمياء: وهي التي تُوثِقُ حاضر الناس بماضي آبائهم، وَتُنِيْخُ نفوسهم أمام تقاليد حدودهم، وتجعلهم أجسادًا جديدة لأرواح عتيقة، وقبورًا مُكَلَّسَة لعظام بالية.
والعبودية الخرساء: وهي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها، وتلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه، وتجعلهما من الحياة بمنزلة النعل من القدم.
والعبودية الصماء: وهي التي تُكْرِهُ الأفراد على اتباع مشارب محيطهم، والتلون بألوانه والارتداء بأزيائه، فيصبحون من الأصوات كَرَجْعِ الصدى، ومن الأجسام كالخيالات.
والعبودية العرجاء: وهي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين، وتسلم عزم الأقوياء إلى أهواء الطامحين بالمجد، والاشتهار؛ فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع، ثم توقفها، ثم تكسرها.
والعبودية الشَّمْطاء: وهي التي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع إلى منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة، ويقطن الذل في جوار القنوط، فيشبون تعساء، ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين.
والعبودية الرَّقطاء: وهي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها، وتسمى الأمور بغير أسمائها، فتدعو الاحتيال ذكاء، والثرثرة معرفة، والضعف لينًا، والجبانة إباء.
والعبودية العوجاء: وهي التي تحرك بالخوف ألسنة الضعفاء؛ فيتكلمون بما لا يضمرون، ويصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه، وتنشره.
والعبودية الحدباء: وهي التي تقود قومًا بشرائع قومٍ آخرين.
والعبودية الجرباء: وهي التي تتوج أبناء الملوك ملوكًا.
والعبودية السوداء: وهي التي تَسِمُ بالعار أبناء المجرمين الأبرياء.
والعبودية للعبودية نفسها: هي قوة الاستمرار.- «العبودية» [64]
- وانظر أيها السلطان المهيب، انظر إلى تلك القصور والمعاهد، فهي أوكار ضيقة يسكنها الإنسان مفاخرًا بزخارف سقوفها التي تحجبه عن النجوم، مغتبطًا بصلابة جدرانها التي تفصله عن أشعة الشمس. هي كهوف مظلمة تذبل في ظلالها أزاهر الشباب، وتترمد في زواياها جمرة الحب، وتتحول في فضائها رسوم الأحلام إلى أعمدة من دُخَانٍ، هي سرادب غريبة يتمايل فيها سرير الطفل بجانب فراش المنازع، وينتصب فيها تخت العروس بقرب نعش الميت.
- «الملك السجين» [65]
- الإنسانية امرأة يلذ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال، ولو كانت الإنسانية رجلًا لفرحتْ بمجدهم وعظمتهم.
- الإنسانية طفلة تقف متأوهةً بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة الهائلة التي تَهْصِرُ بمسيرها الأغصان اليابسة، وتجرف بعزمها الأقذار المنتنة.
- الإنسانية ترى يسوع الناصري مولودًا كالفقراء، عائشًا كالمساكين، مهانًا كالضعفاء، مصلوبًا كالمجرمين، فتبكيه، وترثيه، وتندبه وهذا كل ما تفعله لتكريمه.
- ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا، ولم يمت شاكيًا متوجعًا، بل عاش ثائرًا، وصُلب متمردًا، ومات جبارًا.
لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين، بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المُعْوَّجَةِ.
لم يجئ يسوع من وراء الشفق الأزرق، ليجعل الألم رمزًا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحرية. - لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى، ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسًا ورهبانًا، بل جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحًا جديدة قوية تُقَوِّضُ قوائم العروش المرفوعة على الجماجم، وتهدم القصور المتعالية فوق القبور، وتسحق الأصنام المنصوبة على أجساد الضعفاء المساكين.
- لم يجئ يسوع ليعلم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلًا، ونفسَه مذبحًا، وعقلَه كاهنًا.
- «يسوع المصلوب» [66]
- أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب، وليس لظلمتي بدء، وليس لأعماقي نهاية، فإذا ما انتصبتْ الأرواح متباهية بنور أفراحها، تتعالى روحي متجمدة بظلام كآبتها.
أنا مثلك أيها الليل ولن يأتي صباحي حتى ينتهي أجلي.- «أيها الليل» [67]
- أما اسم المرأة التي أحبها قلبي فهو الحياة.
فالحياة امرأة ساحرة حسناء تستهوي قلوبنا، وتستغوي أرواحنا، وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أَبَرَّت أيقظتْ فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها.
الحياة امرأة ترتدي الأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء.
الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلًا، وتأباه حَلِيْلًا.
الحياة امرأة عَاهِرَة؛ ولكنها جميلة، ومن يرى عُهْرَهَا يكره جمالها.- «قبل الانتحار» [68]
- أنا أكرهكم يا بني أمي؛ لأنكم تكرهون المجد والعظمة.
أنا أحتقركم؛ لأنكم تحتقرون نفوسكم.
أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة، ولكنكم لا تعلمون.- «يا بني أمي» [69]
- نحن أبناء الكآبة، وأنتم أبناء المسرات، فهلموا نضع مآتي كآبتنا، وأعمال مسراتكم أمام وجه الشمس.
- أنتم بنيتم الأهرام من جماجم العبيد، والأهرام جالسة الآن على الرمال تحدث الأجيال عن خلودنا وفنائكم، ونحن هدمنا الباستيل بسواعد الأحرار، والباستيل لفظة ترددها الأمم؛ فتباركنا وتلعنكم.
- أنتم رفعتم حدائق بابل فوق هياكل الضعفاء، وأقمتم قصور نينوى فوق مدافن البؤساء، وها قد أصبحت بابل، ونينوي نظير آثار أخفاف الإبل على رمال الصحراء، أما نحن فقد نحتنا تمثال عشتروت من الرخام، فجعلنا الرخام يرتعش جامدًا، ويتكلم صامتًا، وضربنا النهاوند على الأوتار، فاستحضرت الأوتار أرواح المحبين الحائمة في الفضاء، ورسمنا مريم بالخطوط والألوان، فغدت الخطوط كأفكار الآلهة، والألوان كعواطف الملائكة.
- «نحن وأنتم» [70]
- قم يا قلبي، وارفع صوتك مترنمًا، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام.
- «بين ليل وصباح» [71]
- الشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفَكِهة، ويكرهون المبادئ، والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رُقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة.
- أنا أبكي على الشرقيين؛ لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
- أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة؛ لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء.
- أنا متطرف؛ لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبًا وراء خوفه ظنون الناس وتقولاتهم.
- أنا أرى الجيفة المنتنة، فتشمئز نفسي، وتضطرب أحشائي، ولا أستطيع أن أجلس قبالتها وفي يميني كأس من الشراب، وفي شمالي قطعة من الحلوى.
- «المخدرات والمباضع» [72]
- وفي فم الأمة السورية أضراس بالية سوداء قذرة ذات رائحة كريهة، وقد حاول أطباؤنا تطهيرها، وحشوها بالمينا، وإلباس خارجها رقوق الذهب، ولكنها لا تُشْفَى، ولن تُشفى بغير الاستئصال، والأمة التي تكون أضراسها معتلة تكون معدتها ضعيفة، وكم أمةً ذهبت شهيدة عسر الهضم.
- ومن شاء أن يرى أضراس سورية المسوسة، فليذهب إلى المدرسة حيث يستظهر رجال الغد ما قاله الأخفش نقلًا عن سيبويه، وسيبويه عن سائق الأَظْعَانِ.
أو فليذهب إلى المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية، مثلما تلعب القطة بصيدها.
أو فليذهب إلى منازل المُوسَرِيْنَ حيث التصنع، والكذب، والرياء.
أو فليذهب إلى بيوت الفقراء حيث الخوف، والجبانة، والجهال- «الأضراس المسوسة» [73]
- ليس من يكتب بالحبر، كمن يكتب بدم القلب، وليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
- هل تبقى سورية مطروحةً بين مغائر الذئاب، وحظائر الخنازير، أو يا ترى تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد، أو ذروات النسر؟
وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان؟ - ومن منكم أيها الناس، لم يسأل نفسه في كل يوم وليلة عن مصير الأرض، وسكانها بعد أن تختمر الجبابرة من دموع الأرامل والأيتام؟
- أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء، وفي عرفي أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنتقل بالأديان، والحكومات من الحسن إلى الأحسن، انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب، فلا رجوع إلى الوراء إلا في الظاهر، ولا انحطاط إلا في السطحي.
- أما الدماء التي أُهْرِقَت فسوف تجري أنهارًا كوثرية، وأما الدموع التي نُثِرَت، فستنبت أزهارًا زكية، وأما الأرواح التي فاضت فسوف تجتمع، وتأتلف، وتتطلع من وراء الأفق الجديد صباحًا جديدًا، فيعلم الناس بأنهم قد ابتاعوا الحق في سوق البؤس، وأن من ينفق في سبيل الحق لم يخسر.
- «الجبابرة» [74]
- لو ثار قومي على حكامهم الطغاة، وماتوا جميعًا متمردين، لقلت إن الموت في سبيل الحرية لأشرف من الحياة في ظلال الاستسلام، ومن يعتنق الأبدية، والسيف في يده كان خالدًا بخلود الحق.
- إن العاطفة التي تجعلك، يا أخي السوري، أن تعطي شيئًا من حياتك لمن يكاد أن يفقد حياته، هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حَرِيًا بنور النهار، وهدوء الليل.
وإن الدرهم الذي تضعه في اليد الفارغة الممدودة إليك هو هو الحلقة الذهبية التي تصل ما فيك من البشرية بما فوق البشرية.- «مات أهلي» [75]
- لي رأي في الرابطة الأممية قد يحسبه بعض المفكرين غريبًا، لأن أصوله ونتائجه ليست من الأمور المحسوسة.
أما رأيي فهو هذا:
لكل شعب ذاتٌ عامة تشابه بجوهرها، وطبيعتها ذات الفرد، ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب، كما تستمد الشجرة حياتها من الماء، والتراب، والنور، والحرارة فهي مستقلة عن الشعب، ولها حياة خاصة وإرادة منفردة، وكما يصعب عليَّ تحديد وتعيين الزمن الذي تتولد فيه ذات الفرد الواحد، هكذا يصعب علىَّ تعيين وتحديد الزمن الذي تتولد فيه الذات العامة، غير أنني أشعر أن الذات المصرية — مثلًا — قد تبلورت قبل ظهور الدولة الأولى على ضفاف النيل بزمن لا يقل عن خمسمائة سنة، ومن تلك الذات العامة قد استمدت مصر مظاهرها الفنية، والدينية، والاجتماعية، وما أقوله عن مصر يصح في آشور، وفارس، واليونان، ورومة والعرب، وغيرها من الأمم الحديثةن أعني تلك التي ظهرت بعد انقضاء الأجيال المتوسطة.- «الأمم وذواتها» [76]
- أنا غريب في هذا العالم.
- أنا غريب، وفي الغربة وحدة قاسية، ووحشية موجعة، غير أنها تجعلني أن أفكر أبدًا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية ما رأتها عيني.
- أنا غريب عن أهلي وخلاني، فإذا ما لقيت واحدًا منهم أقول في ذاتي: «من هذا، وكيف عرفته، وأي ناموسٍ يجمعني به، ولماذا أقترب منه وأجالسه؟».
- أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلمًا تستغرب أذني صوتي، وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكةً باكية، مستبسلةً، خائفةً، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي، ولكنني أبقى مجهولًا، مستترًا، مكتنفًا بالضباب، محجوبًا بالسكوت.
- أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تكنه أعماقي.
- أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي.
- أنا غريب وقد جُبْتُ مشارق الأرض ومغاربها. فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني، ولا من يسمع بي.
- أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة، وأنثر ما تنظمه، ولهذا أنا غريب، وسأبقى غريبًا حتى تخطفني المنايا، وتحملني إلى وطني.
- «الشاعر» [77]
- لقد مللتُ الكلام والمتكلمين.
لقد تعبتْ روحي من الكلام والمتكلمين.
لقد ضاعتْ فكرتي بين الكلام والمتكلمين.- «الكلام وطوائف المتكلمين» [78]
النبي (1923)
عدلالنبي هو كتاب من 26 قصة شعرية نثرية كتبها خليل جبران بالإنجليزية وأشهر أعماله. نشرت في الأصل عام 1923 بواسطة ألفريد أ. كنوبف. تُرجم النبي إلى أكثر من 100 لغة مختلفة، مما يجعله أحد أكثر الكتب المترجمة في التاريخ، ولم ينفد من الطباعة.
- وظلَّ المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرًا لذاته، يترقَّب عودة سفينته في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة؛ ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي وُلد فيها.
وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تَمْخر عباب البحر مغمورة بالضَّباب.
فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحًا، فأغمض عينيه، ثمَّ صلَّى في سكون نفسه.- «النبي» [79]
- إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها،
وإن كانت مسالكها صعبة متحدِّرة.
وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها،
وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.
وإذا خاطبتكم المحبة فصدِّقوها،
وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعًا صفصفًا. - لأنه كما أن المحبة تكللكم، فهي أيضًا تصلبكم.
وكما تعمل على نُمُوِّكم، هكذا تعلِّمكم وتستأصل الفاسد منكم.
وكما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس،
هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب وتهزُّها في سكينة الليل. - المحبة تضمُّكم إلى قلبها كأغمار الحنطة،
وتدرسكم على بيادرها لكي تُظهر عريكم،
وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم،
وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج،
وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا،
ثمَّ تعدُّكم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزًا مقدَّسًا يقرَّب على مائدة الرب المقدَّسة. - المحبة لا تُعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها.
المحبة لا تَمْلك شيئًا، ولا تريد أن يملكها أحد؛
لأنَّ المحبة مكتفية بالمحبة.- «المحبة» [80]
- أحبُّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموِّجًا بين شواطئ نفوسكم.
- غنوا وارقصوا معًا، وكونوا فرحين أبدًا، ولكن فليكن كلٌّ منكم وحده،
كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده، ولكنها جميعًا تخرج نغمًا واحدًا. - ليعطِ كلٌّ منكم قلبه لرفيقه، ولكن حذارِ أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ؛
لأنَّ يد الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم.
قفوا معًا ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا؛ لأن عمودَي الهيكل يقفان منفصلَيْن،
والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها.- «الزواج» [81]
- إنَّ أولادكم ليسوا أولادًا لكم.
إنَّهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.
ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم. - أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكن لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم؛ لأن لهم أفكارًا خاصة بهم.
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم،
ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم؛
فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه ولا في أحلامكم. - وأنَّ لكم أنْ تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم،
ولكنكم عبثًا تحاولون أن تجعلوهم مثلكم؛
لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس. - أنتم الأقواس، وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم.
فإن راميَ السهام ينظر العلامة المنصوبة على طريق اللانهاية،
فيلويكم بقدرته لكي تكون سهامه سريعة بعيدة المدى؛
لذلك فليكن الْتواؤكم بين يدي رامي السهام الحكيم لأجل المسرَّة والغبطة؛
لأنه كما يحبُّ السهم الذي يطير من قوسه، هكذا يحبُّ القوس التي تثبت بين يديه.- «الأبناء» [82]
- إنك إذا أعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك.
ولكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءًا من ذاتك؛ لأنه أي شيء هي ثروتك؟
أليست مادة فانية تخزنها في خزائنك، وتحافظ عليها جهدك خوفًا من أن تحتاج إليها غدًا؟
والغد، ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ الفطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة، وهو يتبع الحُجَّاج إلى المدينة المقدسة؟
أوَليس الخوف من الحاجة هو الحاجة بعينها؟
أوَليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غُلَّته؟- «العطاء» [83]
- أوَليس الخوف من الحاجة هو الحاجة بعينها؟
أوَليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غُلَّته؟- «العطاء» [83]
- من النَّاس من يعطون قليلًا من الكثير الذي عندهم، وهم يعطونه لأجل الشهرة، ورغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تُضيع الفائدة من عطاياهم.
ومنهم من يملكون قليلًا ويعطونه بأسره.
ومنهم المؤمنون بالحياة وبسخاء الحياة، هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبدًا.
ومن الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة لهم.
ومنهم من يعطون بألم، وألمهم معمودية لهم.
وهنالك الذي يعطون ولا يعرفون معنًى للألم في عطائهم، ولا يتطلَّبون فرحًا، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الرَّيْحَان عبيره العَطِر في ذلك الوادي.- «العطاء» [83]
- وإذا ذبحت حيوانًا فقل له في قلبك:
«إنَّ القُوَّة التي أمرت بذبحك، ستذبحني نظيرك،
وعندما تحين ساعتي سأحترق مثلك؛
لأنَّ الشَّريعة التي أسلمتك إلى يديَّ ستسلمني إلى يدي من هو أقوى مني،
وليس دمك ودمي سوى عصارةٍ قد أُعدَّت منذ الأزل غذاءً لشجرة السماء.»- «الغذاء» [84]
- وإذا نهشت تفاحةً بأسنانك فقل لها في قلبك:
«إنَّ بذوركِ ستعيش في جسدي،
والبراعم التي ستخرج منكِ في الغد ستزهر في قلبي،
وسيتصاعد عبيرك مع أنفاسي،
وسأفرح معكِ في جميع الفصول.»- «الغذاء» [84]
- فإذا اشتغلت فما أنت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام، فتتحول إلى موسيقى خالدة.
ومن منكم يودُّ أن يكونَ قصبةً خرساء صماء، وجميع ما حولها يترنَّم معًا بأنغام متفقة؟
قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة.
أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءًا من حلم الأرض البعيد، جزءًا خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم.
فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة؛
لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها، وتُدنيه من أبعد أسرارها.- «العمل» [85]
- وما هو العمل المقرون بالمحبة؟
هو أن تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك، مفكِّرًا أن حبيبك سيرتدي ذلك الرداء.
هو أن تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك وإخلاصك، مفكِّرًا أن حبيبك سيقطن في ذلك البيت.
هو أن تبذر البذور بدقَّة وعناية، وتجمع الحصاد بفرح ولذة، كأنك تجمعه لكي يقدَّم على مائدة حبيبك.
هو أن تضع في كل عمل من أعمالك نسمة من روحك،
وتثق بأن جميع الأموات الأطهار محيطون بك يراقبون ويتأملون.- «العمل» [85]
- فإذا فرحتم فتأملوا مليًّا في أعماق قلوبكم تجدوا أن ما أحزنكم قبلًا يفرحكم الآن.
وإذا أحاطت بكم جيوش الكآبة، فارجعوا ببصائركم ثانيةً إلى أعماق قلوبكم وتأملوا جيِّدًا، تروا هنالك بالحقيقة أنكم تبكون لما كنتم تعتقدون أنه غاية مسرَّاتكم على الأرض.- «الفرَح والتَّرَح» [86]
- ومع كل ما يزين منازلكم من الجلال والجمال، فإنها لن تستطيع أن تحتفظ بسركم أو أن تئوي حنينكم؛
لأن غير المحدود فيكم يقطن في منزل السماء، الذي بوابته سحابة الصباح ونوافذه سكون الليل وأناشيده.- «المساكن» [87]
- إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم، ولكنها لا تستر غير الجميل.
ومع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر والانفراد، فإنها تقيدكم وتستعبدكم.
ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس والريح بثياب بشرتكم عِوَضًا عن ثياب مصانعكم؛
لأن أنفاس الحياة في أشعة الشمس، ويد الحياة تسير مع مجاري الرياح.- «الثياب» [88]
- إنَّ الأرض تُقدِّم لكم ثمارها، ولو عرفتم كيف تملئون أيديكم من خيراتها لما خبرتم طعم الحاجة في حياتكم؛
لأنَّكم بغير مبادلة عطايا الأرض لن تجدوا وفرًا من الرزق ولن يشبع جشعكم؛
فيجدر بكم أن تتموا هذه المقايضة بروح المحبة والعدالة، وإلا فإنها تؤدي بالبعض منكم إلى الشراهة وبغيرهم إلى الطمع والمجاعة.- «البيع والشراء» [89]
- عندما تسير أرواحكم هائمة فوق الرياح،
وتمسون منفردين، ليس لكم من يقيكم طوارئ السوء، حينئذٍ تقترفون الإثم ضد غيركم وضد أنفسكم.
ولأجل ذلك الإثم الذي تقترفونه يجب أن تقرعوا برهةً وتنتظروا على بوابة القدوس.- «الجرائم والعقوبات» [90]
- إنكم تستلذون أن تضعوا شرائع لأنفسكم،
بَيْدَ أنكم تستلذون بالأكثر أن تكسرُوها وتتعدَّوْا فرائضها؛
لذلك أنتم كالأولاد الذين يلعبون على الشاطئ، يبنون أبراجًا عظيمةً من الرمل بصبر وثبات، ثمَّ لا يلبثون أن يهدموها ضاحكين صاخبين.
فعندما تبنون أبراجكم الرملية يأتي البحر برمال جديدة إلى الشاطئ.
وعندما تهدمون أبراجكم يضحك البحر منكم في نفسه؛ لأن البحر يضحك من الأبرياء أبدًا.- «الشرائع» [91]
- الحقَّ أقول لكم، إن جميع الأشياء تتحرك في كيانكم متعانقة على الدوام عناقًا نصفيًّا، كل ما تشتهون وما تخافون، وما تتعشقون وما تستكرهون، ما تسعون وراءه وما تهربون منه؛
جميع هذه الرغبات تتحرك فيكم كالأنوار والظلال.
فإذا اضمحل الظل ولم يبقَ له من أثر، أمسى النور المتلألئ ظلًّا لنور آخر سواه.
وهكذا الحال في حريتكم، إذا حلَّت قيودها أمست هي نفسها قيدًا لحرية أعظم منها.- «الحرية» [92]
- كثيرًا ما تكون نفوسكم ميدانًا تسير فيه عقولكم ومدارككم حربًا عَوَانًا على أهوائكم وشهواتكم.
وإنني أودُّ أن أكون صانع سلام في نفوسكم،
فأحوِّل ما فيكم من تنافر وخصام إلى وحدة وسلام.
ولكن أنَّى يكون لي ذلك، إذا لم تصيروا أنتم صانعي سلام لنفوسكم، ومحبين جميع عناصركم على السواء؟- «العقل والعاطفة» [93]
- إنَّ ما تشعرون به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلف إدراككم.
وكما أنَّ القشرة الصلدة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطَّم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس. - هكذا أنتم أيضًا يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة؛ لأنَّكم لو استطعتم أنْ تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها من التأمل والدَّهشة، لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم.
بل كنتم تقبلون فصول قلوبكم كما قد قبلتم في غابر حياتكم الفصول التي مرَّت في حقولكم.
وكنتم ترقبون وتتأملون بهدوء وسكون شتاء أحزانكم وآلامكم.- «الألم» [94]
- إنَّ قلوبكم تعرف في السَّكِينَة أسرار الأيام والليالي.
ولكن آذانكم تتشوق لسماع صوت هذه المعرفة الهابطة على قلوبكم.
غير أنكم تودُّون لو تعرفون بالألفاظ والعبارات ما تعرفونه بالأفكار والتأملات.
وتتوقون إلى أن تلمسوا بأصابعكم جسد أحلامكم العاري.- «معرفة النَّفْس» [95]
- وكما أن لكلٍّ منكم مقامًا منفردًا في معرفة الله إياه، هكذا يجب عليه أن يكون منفردًا في معرفته لله وفي إدراكه لأسرار الأرض.
- «التعليم» [96]
- إنَّ صديقك هو كفاية حاجاتك،
هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر،
هو مائدتك وموقدك؛
لأنَّك تأتي إليه جائعًا، وتسعى وراءه مستدفئًا.- «الصداقة» [97]
- فإذا أوضح لك صديق فكره فلا تخشَ أن تُصرِّح بما في فكرك من النفي، أو أن تحتفظ بما في ذهنك من الإيجاب؛
لأنَّ الجبل يبدو للمتسلق له أكثر وضوحًا وكبرًا من السهل البعيد.
وإذا صمت صديقك ولم يتكلم فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه؛
لأنَّ الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات في إنماء جميع الأفكار والرغبات والتمنيات التي يشترك الأصدقاء بفرح عظيم في قطف ثمارها اليانعات.
وإن فارقت صديقك فلا تحزن على فراقه؛
لأنَّ ما تتعشقه فيه، أكثر من كل شيء سواه، ربما يكون في حين غيابه أوضح في عينَي محبتك منه في حين حضوره.- «الصداقة» [97]
- نَّكم تتكلمون عندما توصد دونكم أبواب السلام مع أفكاركم.
وعندما تعجزون عن السكنى في وحدة قلوبكم، تقطنون في شفاهكم والصوت يلهبكم ويسليكم.
وفي الكثير من كلامكم يكاد فكركم يقضي ألمًا وكآبةً؛
لأنَّ الفكر طائر من طيور الفضاء، يبسط جناحيه في قفص الألفاظ ولكنه لا يستطيع أن يحلق طائرًا.- «الحديث» [98]
- أنت تريد أن تقيس الزمان غير المحدود، الذي لا قياس له،
وتودُّ أن تطبق سلوكك وتعين مسالك روحك على مقتضى الساعات والفصول.
بل أنت تريد أن تجعل الزمان جدولًا تجلس إلى حافته وتراقب انسجام مياهه وتصغي إلى خريرها.- «الزمان» [99]
- أنت صالح، يا صاح، إذا كنت واحدًا مع ذاتك،
وإذا لم تكُ واحدًا مع ذاتك، فأنت لست بالشِّرير؛
لأن البيت المنقسم على ذاته ليس مغارة لِلُّصوص، ولكنه بيت منقسم على ذاته لا أكثر ولا أقل،
والسفينة التي تضيع سكانها وتهيم في البحار بين الجزائر تحدق بها الأخطار من كل جهة، ولكنها لا تغرق إلى قعر البحر.- «الخير والشَّر» [100]
- إنَّكِ تُصلين في ضيقتكِ وفي حاجتك،
ولكن حبذا لو أنك تصلين في كمال فرحكِ ووفرة خيراتك!
وهل الصلاة غير اتساع ذاتكِ في الأثير الحي؟
فإذا كنتِ تتعزين في أن تسكبي كأس ظلمتكِ في الفضاء، فإنك ولا شك تفرحين في أن تسكبي فيه فجر فؤادك.- «الصلاة» [101]
- لا أستطيع أن أعلمك الصلاة بالألفاظ؛
لأنَّ الله لا يصغي إلى كلماتك ما لم يضعها تعالى اسمه على شفتيك وينطق بها بلسانك.
ولا أقدر أن أعلمك صلاة البحار والأحراج والجبال، بيد أنك — وأنت ابنة الجبال والأحراج والبحار — تستطيعين أن تجدي هذه الصلاة محفورة على صفحات قلبك.- «الصلاة» [101]
- فإذا أصغيت في سكينة الليل سمعت الجبال والبحار والأحراج تصلي بهدوء وخشوع:
«ربنا وإلهنا، يا ذاتنا المجنحة،
إننا بإرادتك نرى،
وبرغبتك نرغب ونشتهي.
بقدرتك تُحول ليالينا، وهي لك، إلى أيام هي لك أيضًا.
إننا لا نستطيع أن نلتمس منك حاجة؛
لأنك تعرف حاجاتنا قبل أن تولد في أعماقنا.
أنت حاجتنا، وكلما زدتنا من ذاتك زدتنا من كل شيء.»- «الصلاة» [101]
- اللذة أنشودة سحرية،
ولكنها ليست حرية بذاتها.
اللذة زهرة رغباتكم،
ولكنها ليست ثمرة لها.
اللذة عمق ينشد علوًّا،
ولكن لا هي بالعمق ولا هي بالعلو.
اللذة جناحٌ قد أفلت من قفصه،
ولكنها ليست فضاءً حُرًّا طليقًا.
أجل، إن اللذة بالحقيقة أنشودة الحرية.
وإنه ليطربني أن تترنموا بها في أعماق قلوبكم، ولكنني لا آذن لكم أن تستسلموا بقلوبكم للفناء.- «اللذة» [102]
- نعم يا أبناء أورفليس، إن الجمال هو الحياة بعينها سافرة عن وجهها الطاهر النقي.
ولكن أنتم الحياة وأنتم الحجاب.
والجمال هو الأبدية تنظر إلى ذاتها في مرآة، ولكن أنتم الأبدية وأنتم المرآة.- «الجَمال» [103]
- وإنْ شئتم أن تعرفوا ربكم فلا تُعنَوْا بحل الأحاجي والألغاز،
بل تأملوا ما حولكم تجدوه لاعبًا مع أولادكم،
وارفعوا أنظاركم إلى الفضاء الوسيع تبصروه يمشي في السحاب، ويبسط ذراعيه في البرق، وينزل إلى الأرض مع الأمطار.
تأملوا جيِّدًا تروا ربكم يبتسم بثغور الأزهار، ثمَّ ينهض ويحرك يديه بالأشجار.- «الدِّين» [104]
- أما خوفكم من الموت فهو أشبه بارتعاش الراعي الواقف أمام الملك الذي يريد أن يرفع يمينه فوقه لكي يكرمه وينعم عليه بوسام الرضى والفخر.
أفلا يفرح الراعي مع ارتعاشه لأن مليكه يقلده وسام الشرف والرضى؟ ولكن ألا يشعر مع ذلك بارتعاشه وخفقان قلبه؟
وهل موت الإنسان هو أكثر من وقوفه عاريًا في الريح وذوبانه في حرارة الشمس؟
أم هل انقطاع التنفس غير تحرير النَّفْس من دورانه المتواصل، لكي يستطيع أن ينهض من سجنه ويحلق في الفضاء ساعيًا إلى خالقه من غير قيد ولا عائق؟
- إنكم لا تستطيعون أن تترنموا بالأناشيد حتى تشربوا من نهر الصمت.
ولا تستطيعون أن تباشروا الصعود إلى الجبال حتى تبلغوا قننها.
ولن تقدروا أن ترقصوا حتى تتسلم الأرض جميع أعضائكم.- «الموت» [105]
- إنَّكُم لستم محصورين في سجون أجسادكم، كلا، ولستم مقيدين بجدران بيوتكم وحدود حقولكم.
فإن الذات الخفية التي تمثل حقيقتكم تقطن فوق الجبال وتهيم مع الرياح؛ لأنها لا تدبُّ إلى الشمس مستدفئة ولا تتلمس طريقها في الظلمة مستنجدة، بل هي روح حرة طليقة تغلف الأرض وتركب دقائق الأثير.- «الوداع» [106]
رمل وزبد (1926)
عدلرَمْلٌ وزَبَدٌ مجموعة من تأملات فلسفية وحكم - فاقت 300 - كتبها جبران بعشوائية مشتتة ولوحات رسمها متماهية مع معاني كلماته، على قصاصات ورق متناثرة وفي أماكن متفرقة إضافة لتعليقاته على رسوماته، لكن صديقته بابارا يونج أدركت قيمتها وطلبت منه أن تجمعها في مجلّد واحد، وهو ما سخر منه جبران بداية بقوله «إنه ليس غير رمل وزبد»، لكنه وافق على فكرتها وبدءا بجمع محتوى الكتاب سوية. صدر الكتاب بالإنكليزية أواخر عام 1926، بعد كتاب «النبي» كامتداد له وترجمه أنطونيوس بشير إلى العربية. هذا الجزء عبارة عن 100 اقتباسات مختارة من الكتاب، وحق نشره في ملكية عامة.[107]
- على هذه الشواطئ أتمشى أبدًا، بين الرَّمْلِ والزَّبَدِ. إن المدَّ سيمحو آثار قدمي، وستذهب الريح بالزبد، أما البحر والشاطئ فيظلان إلى الأبد.
- يقولون في يقظتهم: ما أنت والعالم الذي تعيش فيه سوى حبة رمل على شاطئ غير متناهٍ لرحب غير متناهٍ. وفي حلمي أقول لهم: أنا هو البحر غير المتناهي، وما جميع العوالم سوى حبَّاتٍ من الرمل على شاطئي.
- ما عييتُ إلا أمام مَن سألني: مَن أنت؟
- فكَّر الله، فكان فِكْره الأول ملاكًا، وتكلَّم الله، فكانت كلمته الأولى إنسانًا.
- التذكار شكلٌ من أشكال اللقاء.
- النسيان شكلٌ من أشكال الحرية.
- الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد.
- بين خيال الإنسان وإدراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه.
- أنت أعمى، وأنا أصم أبكم، إذن ضع يدك بيدي فيدرك أحدنا الآخر.
- ليست قيمة الإنسان بما يبلغ إليه، بل بما يتوق للبلوغ إليه.
- إذا تُقت إلى البركات التي لا تعرف لها اسمًا، وإذا حزنت وأنت لا تعرف سببًا لحزنك، فأنت حينئذٍ تنمو بالحقيقة مع جميع الناميات، وترتفع متساميًا إلى ذاتك العظمى.
- ليست حقيقة الإنسان بما يُظهِر لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره؛ لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغِ إلى ما يقوله، بل إلى ما لا يقوله
- نصف ما أقوله لك لا معنى له، ولكني أقول ليتمَّ معنى النصف الآخر.
- إذا تكلمت امرأتان فهما لا تُعلنان شيئًا، وإذا تكلمت امرأة واحدة فإنها تعلن الحياة كلها.
- في كل بِزرةٍ حنينٌ.
- افتح عينيك جيِّدًا وانظر، تجد صورتك في كل الصور، وافتح أذنيك جِيِّدًّا وأصغِ، تسمع صوتك في كل الأصوات.
- يحتاج الحقُّ إلى رجلين: الواحد لينطقَ به، والآخر ليفهمَه.
- مع أن أمواج الألفاظ تغمرنا أبدًا، فإن عمقنا صامتٌ أبدًا.
- كثير من المذاهب كزجاج النافذة، نرى الحقيقة من خلالها، ولكنها تفصلنا عن الحقيقة.
- ما أشبه الراغب في فهم المرأة أو تحليل العبقرية أو حل سر الصمت بذلك الرجل الذي يفيق من حلم جميل ليأكل طعام الصباح.
- سأمشي مع جميع الماشين، ولا ولن أقف بلا حراك لأراقب موكب العابرين بي.
- أنت مدين لمن يخدمك بما هو أثمن من الذهب، فأعطِهِ من قلبك أو فاخدمه.
- ألا إننا لم نَعِش عبثًا، أفلم يبنوا الأبراج من عظامنا؟
- كل تنين يلد مار جرجس يقتله.
- الأشجار أشعار تكتبها الأرض على السماء، ونحن نقطعها ونصنع الورق منها لندوِّن فيه فراغنا وبلادتنا.
- إذا وجدتَ في نفسك ميلًا للكتابة — ولا يعلم سرَّ هذا الميل إلا القديسون — فلتكن فيك المعرفة والفن والسحر: معرفة موسيقى الألفاظ، وفن البساطة والسذاجة، وسحر محبة قرائك.
- ليس الشعر رأيًا تعبِّر الألفاظ عنه، بل هو أنشودة تتصاعد من جُرحٍ دامٍ أو فمٍ باسمٍ.
- الوحي يُنشد أبدًا، الوحي لا يفسَّر البتة.
- كثيرًا ما نغنِّي لأولادنا لننام نحن أنفسنا.
- التفكير عقبة دائمة في سبيل الشعر.
- كيف تستطيع أن تغنِّي إذا كان فمك ممتلئًا طعامًا؟ وكيف ترتفع يدك بالبركة إذا كانت ممتلئة ذهبًا؟
- إن الروح المجنَّحة نفسها لا تستطيع أن تتخلَّصَ من الحاجات الطبيعية.
- ليس في العالم شهوة لا تتحقق.
- إذا بلغت إلى قلب الحياة تجد الجمال في كل شيء، حتى في العيون المتعامية عن الجمال. الجمال ضالتنا المنشودة في حياتنا كلها، وكل ما سوى ذلك أشكال من الانتظار.
- ابذر بذرة تنبت لك الأرض زهرة، انشُدْ أحلامك في السماء تُعطِك السماء مَن تحبه نفسك.
- عندما يلمس الرجل بيده يد امرأة، يلمس كلاهما قلب الأبدية.
- المحبة قناع بين محب ومحب.
- المحبة كلمة من نور، كتبتها يد من نور، على صحيفة من نور.
- أنت حُرٌّ أمام شمس النهار، وأنت حُرٌّ أمام قمر الليل وكواكبه، وأنت حُرٌّ حيث لا شمس ولا قمر ولا كواكب، بل أنت حُرٌّ عندما تُغمِض عينيك عن الكِيان بكليته، ولكن أنت عبدٌ لمن تحب لأنك تحبه، وأنت عبدٌ لمن يحبك لأنه يحبك.
- لولا الضيوف لكانت البيوت قبورًا.
- الفرق بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء يومُ جوعٍ وساعةُ عطشٍ.
- ينجح الخداع حينًا، ولكنه يسير أبدًا إلى الانتحار.
- قولك إنك لا تفهمني مديح لا أستحقه أنا، وإهانة لا تستحقها أنت.
- عندما تبلغ إلى قلب الحياة تجد أنك لست أرفع من المجرمين، ولا أدنى من الأنبياء.
- الصالح الصالح هو ذلك الذي لا يفصل ذاته عن جميع الذين يحسبهم العالَم أشرارًا.
- جميعنا سجناء، ولكن بعضنا في سجون ذات نوافذ، وبعضنا في سجون بدون نوافذ.
- الحكومة اتفاق بينك وبيني، وأنت وأنا في الغالب على ضلال.
- الجريمة اسم من أسماء الحاجة، أو مظهر من مظاهر المرض.
- هل هنالك خطأ أعظم من الشعور بخطأ الآخرين؟
- يحسبونني مجنونًا لأنني لا أبيع أيامي بدنانيرهم، وأحسبهم مجانين لأنهم يظنُّون أن أيامي تُباع بالدنانير.
- أسمى الفضائل في هذا العالم ربما تكون أدناها في العالم الثاني.
- ليس الموت بأقرب إلى الشيخ منه إلى الطفل الرضيع، والحياة كالموت.
- مَن يدري إذا لم تكن الجنازة بين الناس عُرسًا بين الملائكة؟
- ليس اللؤلؤ سوى رأي البحر في الصدف. وليس الماس سوى رأي الزمن في الفحم.
- لا دين ولا علم بدون الجمال.
- احفر أين شئت في الأرض تجد كنزًا، ولكن عليك أن تحفر بإيمان الفلاح.
- المتعصب بالدين خطيبٌ بالغ الصمم.
- فِكر الإنسان دون روحه، يخضع للشرائع التي يسنُّها الإنسان.
- إنني سائح وملَّاح في وقت واحد، وفي كل صباح أكتشف قارَّة جديدة في نفسي.
- قالت امرأة: كيف لا تكون الحرب مقدسة وقد مات فيها ابني؟
- قلت مرةً للحياة: أودُّ لو أسمع الموت متكلِّمًا. فرفعت الحياة صوتها قليلًا وقالت لي: إنك تسمعه الآن.
- إذا فرغت من حلِّ جميع أسرار الحياة تتوق إلى الموت؛ لأنه سرٌّ من أسرار الحياة.
- يقولون لي: لو عرفت نفسك لعرفت جميع الناس. فأقول لهم: لن أعرف نفسي حتى أعرف جميع الناس.
- الولادة والموت مظهران من أنبل مظاهر الشجاعة.
- أنت اثنان: واحد متيقظ في الظلمة والثاني غافل في النور.
- الناسك الحق هو ذلك الذي يهجر عالم الذرَّات ويتمتَّع بعالم الكليات غير المتجزئة.
- بين العالِم والشاعر مرجٌ أخضر، فإذا اجتازه العالِم صار حكيمًا، وإذا اجتازه الشاعر صار نبيًّا.
- قال فيلسوف لكنَّاس الشوارع: إنني أشفق عليك لأن عملك مضنك قذر، فأجاب كنَّاس الشوارع وقال: أشكرك يا سيدك، ولكن قل لي ما هو عملك؟فأجاب الفيلسوف متبجِّحًا: إنني أدرس أخلاق الناس وطبائعهم وأبحث في أعمالهم ومنازعهم. فضحك كناس الشوارع وسار في عمله قائلًا للفيلسوف: يا مسكين! يا مسكين!
- إنما الأميرُ كل الأمير ذلك الذي يجد عرشه في قلوب الدراويش.
- الجود أن تعطي أكثر مما تستطيع، والإباء أن تأخذ أقل مما تحتاج إليه.
- كثير الرغبات طويل الحياة.
- في الوجود عنصران لا ثالث لهما، وهما الجمال والحق، الجمال في قلوب المحبين، والحق في سواعد الذين يحرثون الأرض.
- الجمال العظيم يأسرني، ولكن الجمال الأعظم يحرِّرني من أسر ذاته.
- يشرق الجمال أكثر لمعانًا في قلب المشتاق إليه مما في عيني الذي يراه.
- إنني أعجب بالرجل الذي يُظهِر لي فكره، وأُمجِّد الرجل الذي يحسر القناع عن أحلامه، ولكن لماذا أنا خجول حيي أمام الذي يخدمني؟
- كان الموهوب في الماضي يفاخر بخدمة الملوك. أما اليوم فإنه يدَّعي خدمة المساكين.
- الذكاء في الغالب قناع إذا قدرت على تمزيقه رأيت إمَّا عبقرية ثائرة أو حذاقة ماكرة.
- الفهيم ينسب إليَّ الفَهم، والبليد ينسبني إلى البلادة، ويلوح لي أنهما كلاهما مصيبان.
- لا يدرك أسرار قلوبنا إلا مَن امتلأت قلوبهم بالأسرار.
- إن الذي يشاركك في ملذَّاتك دون آلامك سيخسر المفتاح لواحدة من سبع بوابات في الجنة.
- نختار أفراحنا وأحزاننا قبل أن نختبرها بزمن طويل.
- الكآبة جدار بين بستانين.
- إذا تعاظم حزنك أو فرحك صَغُرَت الدنيا في عينيك.
- إن خميرة الجنس كائنة في حنين أمك.
- المحبة التي لا تنبع في كل يوم، تموت في كل يوم.
- لا تستطيع أن تمتلك الشباب ومعرفة الشباب في الوقت الواحد؛ لأن الشباب تلهيه المعيشة عن المعرفة، والمعرفة يلهيها البحث عن ذاتها عن المعيشة.
- للرجل العظيم قلبان: قلب يتألم وقلب يتأمل.
- قد تنسى الذي ضحكت معه، ولكنك لن تنسى الذي بكيت معه.
- لا شك أن في الملح قوة مقدسة عجيبة؛ فهو كائن في دموعنا وفي البحر.
- ما أنت إلا ذرة من ذاتك الجبارة، فمٌ ينشد خبزًا، ويد عمياء تمسك قدحًا لفم عطشان.
- إذا ارتفعتَ عن التعصُّب لجنسك أو بلادك أو ذاتك ذراعًا واحدةً صِرت بالحقيقة مثل ربك.
- إن ما نتوق إليه ونعجز عن الحصول عليه أحبُّ إلى قلوبنا مما قد حصلنا عليه.
- لو جلستَ على السحابة لما رأيتَ الحدَّ الفاصل بين بلاد وبلاد، ولا الحجر الفاصل بين حقل وحقل. ولكن يا للأسف إنك لا تستطيع أن تجلس على السحابة!
- الفنُّ خطوة تخطوها الطبيعة نحو الأبدية.
- هل كانت محبَّة أُمِّ يهوذا لابنها أقل من محبة مريم ليسوع؟
- لأخينا يسوع ثلاث عجائب لم تُكتَب بعدُ في الكتاب: الأولى أنه كان إنسانًا مثلي ومثلك، والثانية أنه كان ذا كياسة وظرف، والثالثة معرفته أنه غالب مع أنه غُلب. أيها المصلوب، إنك مصلوب على قلبي، والمسامير التي ثقبت يديك تخترق جدران قلبي. وغدًا عندما يمرُّ غريب بهذه الجلجلة لن يظنَّ أن دم اثنين نازف هنا، بل يظنُّه دمَ واحدٍ فقط.
- لعلك سمعت بالجبل المبارك، فهو أعلى جبل في العالم. فلو بلغت قمَّته لم يكن لك سوى أمنية واحدة، وهي أن تهبط نازلًا وتقيم مع النازلين في أعمق وادٍ؛ولذلك دُعي الجبل المبارك.
- كلُّ فكر حبستُه عن الظهور بالكلام يجب أن أُطلقَه بالأعمال.
آلهة الأرض (1931)
عدلعبارة عن حوارية شعرية بين ثلاث شخصيات، ويطلق جبران على أبطال حواريته تسمية آلهة الأرض. نشره سنة 1931 ويعد من كتبه الفلسفية الأدبية.[108]
- وعندما حلَّت ليلة العصر الثاني عشر، وابتلَع الصمتُ، الذي هو مدُّ بحرِ الليل، جميع التلال، ظهر الآلهة الثلاثة، المولودون في الأرض وأسيادُ الحياة، على الجبال، فتراكضت الأنهار إلى أقدامهم، وغمرت أمواج الضباب صدورهم، وارتفعت رءوسُهم بجلال فوق العالم، ثمَّ تكلموا، فتموَّجت أصواتهم كالرعد الرعيد، فوق السهول.
- الإله الأول: يا ليت لي أن أَحترق وأمضيَ من ذاكرة الزمان إلى فراغ الأزمان!
- الإله الثاني :فالإنسان طعام للآلهة،
ومجد الإنسان يَبتدئ عندما تمتصُّ شفاه الآلهة المقدَّسة نسمته الهائمة على غير هدى.
كل ما هو بشريٌّ لا قيمةَ له إذا ظلَّ بشريًّا.
إنَّ طهارة الأطفال، ووجْد الشباب اللذيذ،
وهوى الرجولة العزوم، وحكمة الشيخوخة الناضجة،
إن مجد الملوك، ونصر المحاربين،
وشهوة الشُّعراء، وشرف الحاكمين والقدِّيسين،
كل هذه، وكل ما تَحمله في ثناياها، وهو خبز الآلهة.
وهي لن تكون إلا خبزًا بغير بركة إذا لم ترفعْها الآلهة إلى أفواهها. - الإله الثاني: فقد وُلِدَ الإنسان للعبودية،
وبالعبودية شرفه ومكافأته،
بالإنسان نطلُب علامةً لما بنا،
وبحياته نَنشُد كمال ذواتنا.
فإذا أخرَسَ تُراب الأرض قلب الإنسان، فأي قلبٍ يستطيع أن يرى صدى صوتنا؟
وإذا عميَت عيون الإنسان بظلمة الليل، فمَن يستطيع أن يرى لمعان مَجدِنا؟
فماذا يجب أن نفعل بالإنسان وهو ابن قلبنا الأول، وهو صورتنا ومثالنا؟ - الإله الثاني:أواه أيها الأخ الحالم الرفيع!
ارجع إلينا من عهد أرض الكآبة القاتمة.
حرِّر قدمَيك من اللامكان واللازمان.
واقطن معنا في هذه الطمأنينة الآمنة،
التي ابتنتها يداك وأيدينا حجرًا فوق حجر.
انزع عنك ثوب خفَقان قلبك،
وكن رفيقًا لنا في السيادة على هذه الأرض الفتية، الحارة بجلال خُضرتها.
- الإله الثالث : قد انتصرت المحبة!
سواء أكانت المحبة بياضًا ناصعًا أو خضرةً زاهيةً بجانب بحيرة، أو كانت جلالًا وفخارًا في القباب الرفيعة، أو كانت في بستان حافل بالناس،
أو في صحراء لم تَطأها قدم الإنسان.
فالمحبة هي ربنا ومُعلِّمنا في كل حال،
فهي ليست بالشَّهوة الزائدة في الجسد.- ولا هي فُتات الرغبة المُتساقط من مصارعة الرغبة للذات.
كلَّا، ولا هي بالجسد الحامل سلاحه على الروح؛
لأن المحبة لا تعرف الثورة،
ولكنها تهجر طريق الأقدار القديمة لتسير إلى الغابة المقدسة،
لترقص وتترنَّم بأناشيد أسرارها في آذان الأبدية. - المحبة شباب قد تحطَّمت قيوده،
ورجولة قد تحرَّرت من عناء الأرض،
وأنوثة حارة بلهيبٍ مقدَّس، مُشرقة بنور سماءٍ أبهى من سمائنا. - المحبة ضحك بعيد في أعماق الرُّوح.
المحبة حملة قديرة تسير بك إلى يقظتك.
المحبة فجر جديد على الأرض،
ويوم لم تصل إليه لا عينك ولا عيني،
ولكن المحبة قد وصلت إلى قدس أقداسه بقلبها الأعظم.
- ولا هي فُتات الرغبة المُتساقط من مصارعة الرغبة للذات.
حوله
عدل- تكلم جبران عن حاجة الإنسان الغربي إلى عودة الروح. ورغم وجوده في أمريكا، إلا أنه عاد إلى الآثار الإسلامية المسيحية في تعاليمها الروحية.
- صلاح ستيتية، 28 أغسطس 2006 [109]
- لا يمكن فهم تمرد جبران بمعزل عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها فقد كان روحا وثابة وعقلا بحاثا ونفسا طموحة، غير أن بيئته تسعى لأن توثقه بوثاق الرجعية وتشده إلى عفونة الماضي وآصار الحاضر وأثقاله بحبال سميكة فتائلها الإقطاع الزراعي والسياسي والديني، ولهذا صب عليها جام غضبه فاضحا جبروت الحاكم ونفاق رجل الدين وبلادة ملاك الأراضي الذين اصطلحوا على البدن العربي كالسرطان ينهشون لحمه ويمتصون دمه ويجهزون على البقية الباقية فيه.
- إبراهيم مشارة، 15 مارس 2020 [110]
- إنّ خليل جبران هو الفيلسوف الوحيد في العالم الذي عرف كيف يوحّد الأديان كلّها.
انظر أيضًا
عدلمراجع
عدل- ↑ https://www.hindawi.org/books/91827302/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/91827302/2/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/91827302/4/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/0.2/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/2/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/3/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/4/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/5/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/7/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/8/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/9/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/46094724/10/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/2/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/3/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/5/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/10/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/11/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/12/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/15/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/16/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/17/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/18/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/19/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/21/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/22/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/23/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/24/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/26/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/28/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/30/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/31/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/33/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/34/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/36/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/38/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/39/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/40/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/41/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/42/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/43/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/45/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/46/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/49/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/51/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/52/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/53/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/54/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/55/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/56/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/57/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/58/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/68407095/59/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/3/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/21/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/23/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/52602647/24/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/2/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/3/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/4/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/6/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/8/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/9/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/10/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/12/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/13/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/17/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/19/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/20/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/21/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/30/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/85258647/31/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/3/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/4/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/5/
- ↑ 83٫0 83٫1 83٫2 https://www.hindawi.org/books/86402625/6/
- ↑ 84٫0 84٫1 https://www.hindawi.org/books/86402625/7/
- ↑ 85٫0 85٫1 https://www.hindawi.org/books/86402625/8/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/9/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/10/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/11/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/12/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/13/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/14/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/15/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/16/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/17/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/18/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/19/
- ↑ 97٫0 97٫1 https://www.hindawi.org/books/86402625/20/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/21/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/22/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/23/
- ↑ 101٫0 101٫1 101٫2 https://www.hindawi.org/books/86402625/24/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/25/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/26/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/27/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/28/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/86402625/29/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/80390379/1/
- ↑ https://www.hindawi.org/books/72735281/
- ↑ https://ar.qantara.de/content/hwr-m-lshr-slh-styty-drwr-khrj-llg-mn-lstw-ldyny
- ↑ https://ar.qantara.de/content/أديب-المهجر-جبران-همزة-وصل-بين-الشرق-والغرب-جبران-خليل-جبران-ماقت-التعصب-وداعية-التسامح?nopaging=1
- ↑ https://ellearabia.com/نجوم/مقابلات-النجوم/سلمى-حايك-تحقّق-حلمها
وصلات خارجية
عدل- صور وملفات صوتية من كومنز
- نصوص مصدرية من ويكي مصدر