ابن حزم
إمام حافظ وفقيه ظاهري ومجدد أندلسي
ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي (30 رمضان 384 هـ / 7 نوفمبر 994م.قرطبة - 28 شعبان 456 هـ / 15 اغسطس 1064م ولبة)، يعد من أكبر علماء الأندلس وأكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري، وهو إمام حافظ. فقيه ، ومجدد القول به، بل محيي المذهب بعد زواله في الشرق. وعالم برجال الحديث وناقد محلل، كما كان وزير سياسي لبني أمية، سلك طريق نبذ التقليد وتحرير الأتباع.
اقتباسات
عدل- الأمانة والعفة نوعان من أنواع العدل والجود. النزاهة في النفس فضيلة تركبت من النجدة والجود ، وكذلك الصبر. الحلم نوع مفرد من أنواع النجدة. القناعة فضيلة مركبة من الجود والعدل. والحرص متولد عن الطمع ؛ والطمع متولد عن الحسد ، ويتولد من الحرص رذائل عظيمة منها: الذل والسرقة والغصب والزنا والقتل والعشق.. والمداراة فضيلة متركبة من الحلم والصبر. الصدق مركب من العدل والنجدة
- أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة وهي : - العدل ، والفهم ، والنجدة ، والجود. أصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة وهي : - الجور ، والجهل ، والجبن ، والشح. وهذه أضداد الذي ذكرنا
- إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم ، وصلحت عليه حال المتودد من باطل ، أو غيره أو عيب أو ما عداه ، والتحيل في إنماء المال ، وبعد الصوت ، وتسبيب الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة ؛ فليس عقلاً ، ولقد كان الذين صدّقهم الله بأنهم لا يعقلون سائسين لدنياهم مثمرين لأموالهم مدارين لملوكهم حافظين لرياستهم ، لكن هذا الخلق يسمى الدهاء ، وضده العقل والسلامة. وأما إذا كان السعي فيما ذكرنا بما فيه تصاون ، وأنفة = فهو يسمى: الحزم ، وضده المنافي له التضييع. وأما الوقار ووضع الكلام موضعه والتوسط في تدبير المعيشة ، ومسايرة الناس بالمسالمة فهذه الأخلاق تسمى الرزانة ، وهي ضد السخف
- حد العقل استعمال الطاعات والفضائل ، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل. وقد نص الله تعالى في غير موضع من كتابه على أن من عصاه لا يعقل ، قال الله تعالى حاكياً عن قوم { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ثم قال تعالى مصدقاً لهم { فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير }. وحد الحمق استعمال المعاصي والرذائل ... ولا واسطة بين العقل والحمق إلا السخف. وحد السخف هو العمل والقول بما لا يحتاج إليه في دين ولا دنيا ، ولا حميد خلق مما ليس معصية ولا طاعة ولا عوناً عليهما ، ولا فضيلة ولا رذيلة مؤذية ؛ ولكنه من هذر القول وفضول العمل. فعلى قدر الاستكثار من هذين الأمرين أو التقلل منهما يستحق المرء اسم السخف ، وقد يسخف المرء في قصة ، ويعقل في أخرى ، ويحمق في ثالثة
- الثبات الذي هو صحة العقد والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق. والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه ، وقد لاح له فساده ، أو لم يلح له صوابه ولا فساده ، وهذا مذموم ، وضده الإنصاف. وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق ، أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يلح له باطله ، وهذا محمود ، وضده الاضطراب. وإنما يلام بعض هذين ؛ لأنه ضيع تدبر ما ثبت عليه ، وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل
- كنا نظن أن العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر ، فوجدنا الأمر بخلاف ذلك ، وهو في الساكنة الحركات أكثر ، ما لم يكن ذلك السكون بلهاً. التلون المذموم هو التنقل من زي متكلف لا معنى له إلى زي آخر مثله في التكلف ، وفي أنه لا معنى له . وأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة ، وترك التزيد مما لا يحتاج إليه = فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو القدوة في كل خير ، والذي أثنى الله تعالى على خلقُه ، والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها ، وأبعده عن كل نقص ـ : يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خُفٍ ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة ، ويلبس الشعر إذا حضره ، وقد يلبس الوشي من الحبرات إذا حضره ، ولا يتكلف ما لا يحتاج إليه ، ولا يترك ما يحتاج إليه ، ويستغني بما وجد عما لا يجد ، ومرة يمشي راجلاً حافياً ، ومرة يلبس الخف ، ويركب البغلة الرائعة الشهباء ، ومرة يركب الفرس عرياً [بلا سرج] ومرة يركب الناقة ، ومرة يركب حماراً ، ويردف عليه بعض أصحابه ، ومرة يأكل التمر دون خبز ، والخبز يابساً ، ومرة يأكل العناق المشوية ، والبطيخ بالرطب والحلواء . يأخذ القوت ، ويبذل الفضل ويترك ما لا يحتاج إليه ، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة ولا يغضب لنفسه ، ولا يدع الغضب لربه عز وجل
- إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة . الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل ؛ لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره ، وإن يتعدى غيره إلى حرمته ؛ ومن كانت النجدة طبعاً له ، حدثت فيه عزة ، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام. أخبرني بعض من صحبناه في الدهر عن نفسه ، أنه ما عرف الغيرة قط ، حتى ابتُلي بالمحبة فغار . وكان هذا المخبر فاسد الطبع ، خبيث التركيب ؛ إلا أنه كان من أهل الفهم والجود
- من امتحن بقرب من يكره ، كمن امتحن ببعد من يحب ولا فرق. اقنع بمن عندك ، يقنع بك من عندك. السعيد في المحبة هو من ابتلي بمن يقدر أن يلقي عليه قفله ، ولا تلحقه في مواصلته تبعة من الله عز وجل ، ولا ملامة من الناس
- الطمع أصل لكل ذل ، ولكل هم ، وهو خلق سوء ذميم. وضده نزاهة النفس ، وهذه صفة فاضلة مركبة من النجدة والجود والعدل والفهم ؛ لأنه رأى قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها ، وكانت فيه نجدة أنتجت له عزة نفسه ؛ فتنـزه ، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته ، وكانت فيه طبيعة عدل حببت إليه القناعة وقلة الطمع. فإذن نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات. فالطمع الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الصفات الأربع ، وهي: الجبن والشح والجور والجهل. والرغبة طمع مستوفى متزايد مستعمل ، ولولا الطمع ما ذل أحد لأحد
- لا تصاهر إلى صديق ولا تبايعه ، فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة ، وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة ؛ فليس كذلك ؛ لأن هذين العقدين داعيان كل واحد إلى طلب حظ نفسه ، والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً ، فإذا اجتمع طلب كل امريء حظ نفسه ، وقعت المنازعة ، ومع وقوعها فساد المروءة
- لكل شيء فائدة ، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة ، وهي أنه توقد طبعي ، واحتدم خاطري ، وحمي فكري ، وتهيج نشاطي ، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة ، ولولا استثارتهم ساكني ، واقتداحهم كامني ، ما انبعثت لتلك التواليف
- إذا نصحت ففي الخلاء وبكلام لين ، ولا تسند سب مَن تحدثه إلى غيرك ؛ فتكون نماماً ، فإن خشّنت كلامك في النصيحة ؛ فذلك إغراء وتنفير ، وقد قال الله تعالى (فقولا له قولاً ليناً) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنفروا) . وإن نصحت بشرط القبول منك = فأنت ظالم ، ولعلك مخطئ في وجه نصحك ؛ فتكون مطالباً بقبول خطئك ، وبترك الصواب
- الناس في أخلاقهم على سبع مراتب : فطائفة تمدح في الوجه ، وتذم في المغيب ؛ وهذه صفة أهل النفاق من العيابين ، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم . وطائفة تذم في المشهد ، والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين . وطائفة تمدح في الوجه والمغيب ، وهذه صفة أهل الملق والطمع . وطائفة تذم في المشهد ، وتمدح في المغيب ، وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة ، ويثنون بالخير في المغيب ، أو يمسكون عن الذم. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة ، فيمسكون في المشهد ، ويذمون في المغيب . وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب . ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا
- دخول رجل متستر في منزل المرء ، دليل سوء لا يحتاج إلى غيره. ودخول المرأة في منزل رجل على سبيل التستر مثل ذلك أيضاً. وطلب دليل أكثر من هذين سخف. وواجب أن يجتنب مثل هذه المرأة وفراقها على كل حال ، وممسكها لا يبعد عن الدياثة
- من سمع قائلاً يقول في امرأة صديقه قول سوء ، فلا يخبره بذلك أصلاً ، لا سيما إذا كان القائل عيابة ، وقاعاً في الناس سليط اللسان ، أو دافع معرة عن نفسه ، يريد أن يكثر أمثاله في الناس ، وهذا كثير موجود. وبالجملة فلا يحدث الإنسان إلا بالحق ، وقول هذا القائل لا يدري أحق هو أم باطل ، إلا أنه في الديانة عظيم. فإن سمع القول مستفيضاً من جماعة ، وعلم أن أصل ذلك القول شائع ، وليس راجعاً إلى قول إنسان واحد ، أو اطلع على حقيقته إلا أنه لا يقدر أن يوقف صديقه على ما وقف هو عليه ، فليخبره بذلك بينه وبينه في رفق ، وليقل له: النساء كثير ، أو حصن منزلك ، وثقف أهلك ، أو اجتنب أمراً كذا ، وتحفظ من وجه كذا. فإن قبل المنصوح وتحرز فحظ نفسه أصاب ، وإن رآه لا يتحفظ ولا يبالي أمسك ، ولم يعاوده بكلمة ، وتمادى على صداقته إياه ، فليس في أن لا يصدقه في قوله ما يوجب قطيعته ، فإن اطلع على حقيقة وقدر أن يوقف صديقه على مثل ما وقف عليه هو من الحقيقة = ففرض عليه أن يخبره بذلك ، وأن يوقفه على الجلية. فإن غيّر فذلك ، وإن رآه لا يغير اجتنب صحبته ؛ فإنه رذل لا خير فيه ولا نقية
- ولا تأس إن ذممت بما ليس فيك ؛ بل افرح به ، فإنه فضلك ينبه الناس عليه ، ولكن افرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح ، وسواء مدحت به أو لم تمدح ، واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم ، وسواء ذممت به أو لم تذم
- لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ، ولا ينتفع بمعرفته ؛ فهذا فعل الأرذال . ولا تكتمه ما يستضر بجهله ، فهذا فعل أهل الشر ، ولا يسرك أن تمدح بما ليس فيك ، بل ليعظم غمك بذلك ؛ لأنه نقصك ينبه الناس عليه ، ويسمعهم إياه ، وسخرية منك وهزؤ بك ، ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل
- لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذل له من نفسك ، فإن طلبت أكثر ، فأنت ظالم. ولا تكسب إلا على شرط الفقد . ولا تتول إلا على شرط العزل ، وإلا فأنت مضر بنفسك خبيث السيرة. من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها ، أو أردت ابتداءه بقضائها ، فلا تعمل له إلا ما يريد هو لا ما تريد أنت ، و إلا فأمسك ، فإن تعديت هذا كنت مسيئاً لا محسناً ، ومستحقاً للوم منه ومن غيره لا للشكر ، ومقتضياً للعداوة لا للصداقة
- النصيحة مرتان: فالأولى: فرض وديانة . والثانية: تنبيه وتذكير . وأما الثالثة: فتوبيخ وتقريع ، وليس وراء ذلك إلا التركل واللطام ، اللهم إلا في معاني الديانة ، فواجب على المرء ترداد النصح فيها رضي المنصوح أو سخط ، تأذى الناصح بذلك ، أو لم يتأذ. وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً ، وبتعريض لا تصريح ، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك ؛ فلا بد من التصريح. ولا تنصح على شرط القبول منك ، فإذا تعديت هذه الوجوه = فأنت ظالم لا ناصح ، وطالب طاعة ، ومُلْك لا مؤدي حق أمانة وأُخوة. وليس هذا حكم العقل ، ولا حكم الصداقة ، لكن حكم الأمير مع رعيته ، والسيد مع عبيده
- بعض أنواع النصيحة يشكل تمييزه من النميمة ؛ لأن من سمع إنساناً يذم آخر ظالماً له ، أو يكيده ظالماً له ؛ فكتم ذلك عن المقول فيه والمكيد ، كان الكاتم لذلك ظالماً مذموماً ، ثم إن أعلمه بذلك على وجهه كان ربما قد ولد على الذام والكائد ما لم يبلغه استحقاقه بعد من الأذى ؛ فيكون ظالماً له ، وليس من الحق أن يقتص من الظالم بأكثر من قدر ظلمه ، فالتخلص من هذا الباب صعب إلا على ذوي العقول . والرأي للعاقل في مثل هذا ، إن يحفظ المقول فيه من القائل فقط ، دون أن يبلغه ما قال ، لئلا يقع في الاسترسال إليه فيهلك. وأما في الكيد فالواجب أن يحفظه من الوجه الذي يكاد منه بألطف ما يقدر في الكتمان على الكائد ، وأبلغ ما يقدر في تحفيظ المكيد ، ولا يزد على هذا شيئاً . وأما النميمة فهي التبليغ لما سمع مما لا ضرر فيه على المبلغ إليه ، وبالله التوفيق
- ليس في الرذائل أشبه بالفضائل من محبة المدح ، ودليل ذلك أنه في الوجه سخف ممن يرضى به ، وقد جاء في الأثر في المداحين ما جاء ، إلا أنه قد ينتفع به في الإقصار عن الشر والتزيد من الخير ، وفي أن يرغب في ذلك الخلق الممدوح من سمعه
- ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء ، فإن ذلك فضيلة تامة متركبة ؛ لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم ، والجود ، والصبر ، والوفاء .. والعفة ... وتعليم العلم ، وبكل حالة محمودة . ولسنا نعني .. الأتباع أيام الحرمة ، فأولئك لصوص الإخوان وخبث الأصدقاء ، والذين يظن أنهم أولياء وليسوا كذلك. ودليل ذلك انحرافهم عند انحراف الدنيا. ولا نعني أيضاً المصادقين لبعض الأطماع ، .. والمتآلفين على النيل من أعراض الناس ، والأخذ في الفضول ، وما لا فائدة فيه ؛ فليس هؤلاء أصدقاء. ودليل ذلك أن بعضهم ينال من بعض ، وينحرف عنه عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم ، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا لله عز وجل ، إما للتناصر على بعض الفضائل الجدية ، وإما لنفس المحبة المجردة فقط. ولكن إذا أحصيت عيوب الاستكثار منهم ، وصعوبة الحال في إرضائهم ، والغرر في مشاركتهم ، وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم ، فإن غدرت بهم أو أسلمتهم ، لؤمت وذممت ، وإن وفيت ؛ أضررت بنفسك ، وربما هلكت ، وهذا لا يرضى الفاضل بسواه إذا تنشب في الصداقة . وإذا تفكرت في الهم بما يعرض لهم وفيهم من موت أو فراق أو غدر من يغدر منهم ؛ كاد السرور بهم لا يفي بالحزن الممض من أجلهم
- حد الصداقة الذي يدور على طرفي محدوده هو : أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر ، ويسره ما يسره ، فما سفل عن هذا فليس صديقاً ، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق ، وقد يكون المرء صديقاً لمن ليس صديقه. وليس كل صديق ناصحاً ، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه. وحد النصيحة هو أن يسوء المرء ما ضر الآخر ، ساء ذلك الآخر أو لم يسؤه ، وأن يسره ما نفعه ، سر الآخر أو ساءه ، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة. وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه ، وبماله لغير علة توجب ذلك ، وآثرك على من سواك
- ابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك ، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه ، وإن لم يعتمدك بالرغبة ، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل ، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك ، وساع عليك ، فإن ذوي التراكيب الخبيثة ، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. لا تنصح على شرط القبول ولا تشفع على شرط الإجابة ولا تهب على شرط الإثابة لكن على سبيل استعمال الفضل ، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة ، وبذل المعروف
- لا ترغب فيمن يزهد فيك ، فتحصل على الخيبة والخزي. لا تزهد فيمن يرغب فيك ، فإنه باب من أبواب الظلم ، وترك مقارضة الإحسان ، وهذا قبيح. أكتم سر كل من وثق بك ، ولا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم مِن سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه ، وإن كان أخص الناس بك
- استبقاك من عاتبك ، وزهد فيك من استهان بسيئاتك. العتاب للصديق كالسبك للسبيكة ؛ فإما تصفو ، وإما تطير. من طوى من إخوانك سره الذي يعنيك دونك = أخون لك ممن أفشى سرك ؛ لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط ، ومن طوى سره دونك منهم ، فقد خانك واستخونك
- من عَيْبِ حبِ الذكر ، أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها ، فكاد يكون شركاً ؛ لأنه يعمل لغير الله تعالى ، وهو يطمس الفضائل ؛ لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير ، لكن ليذكر به. أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك ؛ لأنه نبه على نقصك ، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك ؛ لأنه نبه على فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك ، وباستهدافه إلى الإنكار ، واللائمة . لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً. لا يخلو مخلوق من عيب ، فالسعيد من قلت عيوبه ودقت
- وجدت أفضل نعم الله تعالى على المرء ، أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره . وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه ، فلييأس من أن يصلح نفسه أو يُقَوِّم طباعه أبداً ، وليعلم أنه لا يفلح في دين ، ولا في خلق محمود. وأما الزهو ، والحسد ، والكذب ، والخيانة ، فلم أعرفها بطبعي قط ، وكأنني لا حَـمْد لي في تركها ، لمنافرة جبلتي إياها ، والحمد لله رب العالمين
- إن نظر المرء في أمر نفسه والتهمم بإصلاحها أولى به من تتبع عثرات الناس ، وبأن أذكر فضل صديقي فأبكته على اقتصاره على ذكر العيب دون ذكر الفضيلة ، وأن أقول : إنه لا يرضى بذلك فيك ، فهو أولى بالكرم منك ، فلا ترض لنفسك بهذا ، أو نحو هذا من القول
- وأما سوء الظن فيعده قوم عيباً على الإطلاق ؛ وليس كذلك ، إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة ، أو إلى ما يقبح في المعاملة ، وإلا فهو حزم ، والحزم فضيلة. .. النائل مني لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون كاذباً ، وإما أن يكون صادقاً. فإن كان كاذباً فلقد عجل الله لي الانتصار منه على لسان نفسه ، بأن حصل في جملة أهل الكذب . وبأن نبه على فضلي بأن نسب إليّ ما أنا منه بريء العرض ، وما يعلم أكثر السامعين له كذبه ، إما في وقته ذلك ، وإما بعد بحثهم عمّا قال. وإن كان صادقاً فإنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه: إما أن أكون شاركته في أمر استرحت إليه استراحة المرء إلى من يقدر فيه ثقة ، وأمانة، فهذا أسوأ الناس حالة ، وكفى به سقوطاً وضعة. وإما أن يكون عابني بما يظن أنه عيب وليس عيباً ، فقد كفاني جهله شأنه ، وهو المعيب لا من عاب . وأما أن يكون عابني بعيب هو فيّ على الحقيقة ، وعلم مني نقصاً أطلق به لسانه ، فإن كان صادقاً: فنفسي أحق بأن ألوم منه ، وأنا حينئذ أجدر بالغضب على نفسي مني على من عابني بالحق
- كانت فيَّ عيوب ، فلم أزال بالرياضة ، وإطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين ، والمتقدمين في الأخلاق ، وفي آداب النفس ، أعاني مداواتها ، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه ، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق ، هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً ، إن شاء الله
- حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه. وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه. وحد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً ، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً ، وهو فضل أيضاً ، وكل جود كرم ، وفضل وليس كل كرم ، وفضل جوداً ؛ فالفضل أعم ، والجود أخص ، إذ الحلم فضل وليس جوداً ، والفضل فرض زدت عليه نافلة
- حد الشجاعة بذل النفس للموت عن الدين ، والحريم ، وعن الجار المضطهد ، وعن المستجير المظلوم ، وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض ، وفي سائر سبل الحق سواء قل من يعارض أو أكثر. والتقصير عما ذكرنا جبن وخور ، وبذلها في عرض الدنيا تهور وحمق. حد العفة أن تغض بصرك ، وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك ، فما عدا هذا : فهو عهر
- بذل الواجبات فرض ، وبذل ما فضل عن القوت جود ، والإيثار على النفس من القوت بما لا تهلك على عدمه فضل ، ومنع الواجبات حرام ، ومنع ما فضل عن القوت بخل وشح ، والمنع من الإيثار ببعض القوت عذر ، ومنع النفس أو الأهل القوت أو بعضه نتن ورذالة ومعصية. والسخاء بما ظَلَمْتَ فيه ، أو أخذتَه بغير حقه = ظلم مكرر ، والذم جزاء ذلك لا الحمد ؛ لأنك إنما تبذل مال غيرك على الحقيقة لا مالك
- استعمل سوء الظن حيث تقدر على توفيته حقه في التحفظ والتأهب ، واستعمل حسن الظن حيث لا طاقة بك على التحفظ ، فتربح راحة النفس. حد الجود وغايته أن يبذل الفضل كله في وجوه البر ، وأفضل ذلك في الجار المحتاج ، وذي الرحم الفقير ، وذي النعمة الذاهبة ، و الأحضر فاقة. ومنع الفضل من هذه الوجوه داخل في البخل ، وعلى قدر التقصير والتوسع في ذلك يكون المدح والذم ، وما وضع في غير هذه الوجوه = فهو تبذير ، وهو مذموم. وما بذلت من قوتك لمن هو أمس حاجة منك = فهو فضل وإيثار ، وهو خير من الجود ، وما منع من هذا = فهو لا حمد ولا ذم ، وهو انتصاف
- من استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه. من قبيح الظلم الإنكار على من أكثر الإساءة إذا أحسن في الندرة. لم أر لإبليس أصيد ، ولا أقبح ولا أحمق من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته: إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله . والثانية، استسهال الإنسان أن يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس ، أو أن يسيء في وجه ما ، لأنه قد أساء في غيره ، فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مسهلتين للشر ، ومدخلتين له
- أول من يزهد في الغادر، من غدر له الغادر، وأول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه، الذي يزني بها. كثرة المال ترغب، وقلته تقنع. كثرة وقوع العين على الشخص يسهل أمره ويهونه
- الوجع والفقر والنكبة والخوف، لا يحس أذاها إلا من كان فيها، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها. وفساد الرأي ، والعار ، والإثم لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يراه من كان داخلاً فيها. الأمن والصحة والغنى، لا يعرف حقها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يعرف حقها من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة، لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها، ولا يعرفه من لم يكن من أهلها
- لا تحقر شيئاً من عمل غد أن تحققه بأن تعجله اليوم وإن قل ، فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما أعجز أمرها عند ذلك فيبطل الكل. لا تحقر شيئاً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث إن تعجله الآن وإن قل، فإنه يحط عنك كثيراً، لو اجتمع لقذف بك في النار
- من جالس الناس لم يعدم هماً يؤلم نفسه، وإنما يندم عليه في معاده، وغيظاً ينضج كبده، وذلاً ينكس همته، فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم ? والعز والراحة والسرور والسلامة في الانفراد عنهم، ولكن أجعلهم كالنار تدفأ بها، ولا تخالطها. لو لم يكن في مجالسة الناس إلا عيبان لكفيا، أحدهما الاسترسال عند الأنس بالأسرار المهلكة القاتلة، التي لولا المجالسة لم يبح بها البائح، والثاني: مواقعة الغلبة المهلكة في الآخرة، فلا سبيل إلى السلامة من هاتين البليتين إلا بالإنفراد عن المجالسة جملة
- الصبر على الجفاء ينقسم ثلاثة أقسام: فصبر عمن يقدر عليك ولا تقدر عليه، وصبر عمن تقدر عليه ولا يقدر عليك، وصبر عمن لا تقدر عليه ولا يقدر عليك. فالأول ذل ومهانة وليس من الفضائل. والرأي لمن خشي ما هو أشد مما يصبر عليه: المتاركة والمباعدة. والثاني فضل وبر: وهو الحلم على الحقيقة، وهو الذي يوصف به الفضلاء. والثالث ينقسم قسمين: إما أن يكون الجفاء ممن لم يقع منه إلا على سبيل الغلط ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه، فالصبر عليه فضل وفرض، وهو حلم على الحقيقة. وأما من كان لا يدري مقدار نفسه ويظن أن لها حقاً يستطيل به، فلا يندم على ما سلف منه، فالصبر عليه ذل للصابر، وإفساد للمصبور عليه، لأنه يزيد استشراء، والمقارضة له سخف، والصواب إعلامه بأنه كان ممكناً أن ينتصر منه، وإنه إنما ترك ذلك استرذالاً له فقط، وصيانة عن مراجعته ولا يزاد على ذلك. وأما جفاء السفلة فليس جزاؤه إلا النكال وحده
- احرص على أن توصف بسلامة الجانب ، وتحفظ من أن توصف بالدهاء = فيكثر المتحفظون منك ، حتى ربما أضر ذلك بك ، وربما قتلك. وطّن نفسك على ما تكره = يقل همك إذا أتاك ، ويعظم سرورك ، ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدّرته. إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها. الغادر يفي للمجدود [المحظوظ] ، والوفي يغدر بالمحدود [عديم الحظ] ، والسعيد كل السعيد في دنياه من لم يضطره الزمان إلى اختبار الإخوان. طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها
- منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة ، وهو أنه يعلم حسن الفضائل = فيأتيها ولو في الندرة. ويعلم قبح الرذائل = فيجتنبها ولو في الندرة . ويسمع الثناء الحسن = فيرغب في مثله ، والثناء الرديء = فينفر منه ، فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة ، وللجهل حصة في كل رذيلة . ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جداً ، فاضل التركيب ، وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة والسلام ؛ لأن الله تعالى علمهم الخير كله ، دون أن يتعلموه من الناس. وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال ، وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ، ولكنه قليل جداً. ورأيت ممن طالع العلوم ، وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ، ووصايا الحكماء ، وهو لا يتقدمه في خبث السيرة ، وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق ، وهذا كثير جداً ، فعلمت أنهما مواهب ، وحرمان من الله تعالى
- من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها ، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة ، والبر ، والصدق ، وكرم العشيرة ، والصبر ، والوفاء ، والأمانة ، والحلم ، وصفاء الضمائر ، وصحة المودة. ومن طلب الجاه والمال واللذات ، لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة ، والثعالب الخلبة ، ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو المعتقد ، خبيث الطبيعة
- من فضل العلم والزهد في الدنيا ، أنهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ، ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت ، أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما
- غاظني أهل الجهل مرتين من عمري: أحدهما: بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي، والثاني: بسكوتهم عن الكلام بحضرتي ، فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم ، ناطقون فيما يضرهم. وسرني أهل العلم مرتين من عمري: أحدهما: بتعليمي أيام جهلي، والثاني بمذاكرتي أيام عملي
- من أراد خير الآخرة ، وحكمة الدنيا ، وعدل السيرة ، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها ، واستحقاق الفضائل بأسرها , فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليستعمل أخلاقه ، وسيره ما أمكنه ، أعاننا الله على الاتساء به ، بمنّه آمين
- من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه = كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر ، وكغارس الشَّعراء [شجرة من الحمض] حيث يزكو النخل والزيتون. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم ، كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى ، أو كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء. الباخل بالعلم ، ألأم من الباخل بالمال ؛ لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده ، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ، ولا يفارقه مع البذل. من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره ؛ فلا يشغلها بسواه ، فيكون كغارس النارجيل بالأندلس، وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب. أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى ، وما أعانك على الوصول إلى رضاه. انظر في المال والحال والصحة إلى من دونك ، وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك. العلوم الغامضة كالدواء القوي ، يُصْلح الأجساد القوية ، ويُـهْلك الأجساد الضعيفة. وكذلك العلوم الغامضة ؛ تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة ، وتهلك ذا العقل الضعيف
- لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك ، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك = لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه ، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة ؟! ولو لم يكن من نقص الجهل ، إلا أن صاحبه يحسد العلماء ، ويغبط نظراءه من الجهال = لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه ، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة ؟! لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به ، إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم ، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس ، لكان ذلك أعظم داع إليه ، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره ؟!
- من حقق النظر، وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه ؛ لأن مدحهم إياه ، إن كان بحق وبلغه مدحهم له = أسرى ذلك فيه العجب = فأفسد بذلك فضائله . وإن كان بباطل فبلغه فَسَرَّه ، فقد صار مسروراً بالكذب ، وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه ، فإن كان بحق فبلغه ، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه ، وهذا حظ عظيم ، لا يزهد فيه إلا ناقص . وإن كان بباطل وبلغه فصبر = اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر ، وكان مع ذلك غانماً ؛ لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل = فيحظى بها في دار الجزاء ، أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمالٍ لم يتعب فيها ، ولا تكلفها ، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون. وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه ، فكلامهم ، وسكوتهم سواء ، وليس كذلك ذمهم إياه ؛ لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم ، أو لم يبلغه. ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن ذلك عاجل بشرى المؤمن = لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل ، أكثر من رغبته في المدح بالحق ، ولكن إذا جاء هذا القول ، فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل ، فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح
- رأيت أكثر الناس إلا من عصم الله تعالى ـ وقليل ما هم ـ يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا، ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً ! : من نيات خبيثة يضبون [أي: يضمرون] عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ، ومن لا ذنب له ، وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه ، وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه
- لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها ، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق ، وفي حماية الحريم ، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى ، وفي نصر مظلوم. وباذل نفسه في عَرَض دنيا ، كبائع الياقوت بالحصى! لا مروءة لمن لا دين له. العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة. لإبليس في ذم الرياء حبالة ، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء. العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس ، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هذا باب العقل ، والراحة كلها. من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون
- لذة العاقل بتمييزه ، ولذة العالم بعلمه ، ولذة الحكيم بحكمته ، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده = أعظم من لذة الآكل بأكله ، والشارب بشربه ، والواطيء بوطئه ، والكاسب بكسبه ، واللاعب بلعبه ، والآمر بأمره ، وبرهان ذلك أن الحكيم العاقل والعالم والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا ، كما يجدها المنهمك فيها ، ويحسونها كما يحسها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها، وآثروا طلب الفضائل عليها، وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر
- لا آفَةَ عَلَى العُلُومِ وَأَهْلِهَا أَضَرُّ مِنَ الدُّخَلاءِ فِيهَا ، وَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَإِنَّهُمْ يَجْهَلُونْ ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونْ ، وَيُفْسِدُونْ ، ويُقَدِّرُونَ أَنَّهُمْ يُصْلِحُون .
- مَنْ مَالَ بِطَبْعِهِ إِلَى عِلْمٍ مَا وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْ غَيْرِهِ فَلا يُشْغِلُهَا بِسِوَاهُ ، فَيَكُونُ كَغَارِسِ النَّارْجِيلِ بِالأَنْدَلُسِ ، وَكَغَارِسِ الزَّيتُونِ بِالهِنْدِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لا يُنْجِبُ .
- أَجَلُّ العُلُومِ مَا قَرَّبَكَ مِنْ خَالِقِكَ تَعَالَى ، وَمَا أَعَانَكَ عَلَى الوصُولِ إِلَى رِضَاه .
- مَنْ أَرَادَ خَيْرَ الآخِرَةِ ، وَحِكْمَةَ الدُّنيَا ، وَعَدْلَ السِّيرَةِ ، وَالاحْتِوَاءَ عَلَى مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ كُلِّهَا ، وَاسْتِحْقَاقَ الفَضَائِلِ بِأَسْرِهَا ؛ فَلْيَقْتَدِ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلْيَسْتَعْمِلْ أَخْلاقَهُ ، وَسِيَرَهُ مَا أَمْكَنَهُ.
- النَّاسُ سِرَاعٌ إلى قَبُولِ البَاطِل ، وَالحَقُّ مُرٌّ ثَقِيل .
- غاظني أهل الجهل مرتين من عمري :
أحدهما : بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي. والثاني: بسكوتهم عن الكلام بحضرتي أيام علمي ، فهم أبدًا ساكتون عما ينفعهم ، ناطقون فيما يضرهم.
- طَبَائِعُ البَشَرِ كُلِّهِم وَاحِدَةٌ ، إِلاَّ أَنَّ لِلعَادَةِ وَالاعتِقَادِ الدِّينيِّ تَأثيرًا ظَاهِرًا .
- مِحَنُ الإِنْسَانِ في دَهْرِهِ كَثِيرَةٌ ، وَأَعْظَمُهَا ؛ مِحْنَتُهُ بِأَهْلِ نَوعِهِ مِنَ الإِنْس .
- داء الإِنْسَان بالناس أعظم من دائه بالسباع الكَلِبَةِ ، والأفاعي الضارية ؛ لأن التحفظ من كل ما ذكرنا ممكن ، ولا يمكن التحفظ من الإنس أصلاً.
- الصَّالِحَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء كالنَّار الكَامِنَة في الرَّماد ، لا تُحرِقُ مَنْ جَاوَرها إلا بِأَنْ تُحَرَّك .
والفَاسِقَانِ كالنَّارِ المشتَعِلة تُحرِقُ كُلَّ شَيء .
- لا يغتر العاقل بصداقة حادثة أيام دولته ، فكل أحد صديقه يومئذ .لا تجب عن كلام نقل إليك عن قائل حتى توقن أنه قاله ، فإن من نقل إليك كذباً رجع من عندك بحق. ثق بالمتدين ، وإن كان على غير دينك ، ولا تثق بالمستخف ، وإن أظهر أنه على دينك
- وطن نفسك على ما تكره - يَقِلَّ همك إذا أتاك، ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدَّرتَه .
- أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة، وهي العدل، والفهم، والنجدة، والجود
- وللحب علامات يقفوها الفطن ، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها.
- من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه. فان أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنية، فان خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أنه مصيبته للأبد وأنه اتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً.